دمشق - نور خوّام
في منتصف عام 2015، قطعت "هدى" ذات الثلاثين عامًا ومعها ابنتها الصغيرة مسافة طويلة، في رحلة جوية أقلعت من الدار البيضاء المغربية مسقط رأسها، متجهة نحو مدينة إسطنبول، ومنها أكملت رحلتها برًا على متنِ حافلة حديثة، قاصدة مدينة كِلس التركية الحدودية مع سورية.
دخلت سرًا من خلال بلدة الراعي الحدودية على الطرف السوري الذي كان يخضع آنذاك لسيطرة عناصر تنظيم "داعش" المتطرف، واتجهت إلى مدينة الرقة الوجهة المقصودة لها بعد رحلة استغرقت 3 أيام، حينذاك كانت أبرز معاقل التنظيم في سورية قبل طرده في أكتوبر (تشرين الأول) 2017.
تقول هدى: “سبقني زوجي بشهرين لسورية بعد إعلان أبو بكر البغدادي أول رمضان 2014 مناطقه ونصب نفسه زعيمًا للتنظيم، سافر وقاتل في صفوفه ولحقت به”، وكشفت أنها لم تكن على دراية بانتسابه إلى التنظيم، وقال لها قبل مجيئها إنه يعمل في المجال الإنساني، وعندما أبلغت أهلها بقرارها السفر إلى سورية، “والدي رفض بشدة وأمي توسلت عدم الذهاب، لكن لا حول لي ولا قوة، يجب على المرأة اللحاق بزوجها لذا وافقوا مرغمين”.
إقرأ أيضًا:
تشكيل الرئاسات الثلاث في إقليم كردستان العراقي لا يزال يراوح مكانه بلا حسم
لكن القدر كان يخبئ لها المفاجآت، فبعد 3 سنوات قتل زوجها ولقي مصرعه أثناء المعارك الدائرة في مدينة الطبقة في ريف الرقة بداية 2017. وضغط التنظيم على عفاف المغربية مرارًا للزواج من مقاتل جديد، قابلتهم السيدة بالرفض قائلة: “كنت أقول لهم إنني أريد العودة إلى بلدي المغرب، ولا أريد الزواج من أحد”. وبحسب هدى وروايات النساء، كان يعيش سكان المناطق الخاضعة لسيطرة التنظيم في حالة خوف دائم، ويغذي هؤلاء الشعور بالرعب من خلال الإعدامات الوحشية والعقوبات، من قطع الأطراف والجلد وغيرها من القوانين المشددة التي طبقوها على كل من كان يخالف أحكامهم أو يعارضها.
أما اليوم، فتنتظر هدى، كحال بقية نساء التنظيم، الحصول على جواب من سفارة بلادها للعودة إلى وطنها، وأعربت عن مشاعرها بالقول: “اشتقت إلى والدتي كثيرًا، ولإخوتي وأهلي. أحن إلى منزلي البسيط، لا أدري كيف أصف مشاعري، فالعجز يغلبني في كل شيء”.
ويبلغ عدد النساء العربيات المهاجرات وأطفالهنّ 1453، عدا العرقيات، ويأتي المغرب على رأس القائمة ويبلغ تعداد النساء منه 582، أما القادمات من مصر فكان عددهن 377 امرأة وطفلًا، فيما كان عدد النساء اللاتي يتحدرن من تونس مع أطفالهنّ 251. بينما الجزائريات كن 98 سيدة وطفلها، والصومال 56 ولبنان 29 والسودان 24 وليبيا 11 وفلسطين 8، والرقم نفسه من اليمن، و9 من دول خليجية.
ويؤوي مخيم الهول (40 كيلومترًا) شرق مدينة الحسكة أكثر من 70 ألف شخص؛ يشكل السوريون والعراقيون النسبة الكبرى من تعداد قاطنيه، كما يضم قسمًا خاصًا بالنساء الأجانب وأطفالهنّ من دول غربية وعربية ويبلغ عدده نحو 10734، من بينهم 3177 امرأة، يخضع لحراسة أمنية مشددّة، حيث يمنع خروج ودخول النساء إلا بإذن خطي من إدارة المخيم وبرفقة عناصر من قوى الأمن الداخلي.
بعين الشك والريبة رفضت بعض النساء الحديث عن تجربتهنّ، بينما استرسلت أخريات في الكلام والدفاع عن أزواجهن وكيف أنهن وقعن ضحية ادعاءات وأكاذيب التنظيم. من بينهن سندس المتحدرة من عاصمة السودان الخرطوم، وهي في الثلاثين من العمر.
ذكرت أنها تتلقى معاملة سيئة بسبب تهمة الإرهاب الملاصقة لها، فقبل أيام تعرضت لحادثة وخز إبرة أسعفت على أثرها لمستشفى المخيم وتأخر الكادر الطبي والممرضون في تقديم العلاج، وقالت: “بقيت ساعة كاملة في غرفة الانتظار رغم أن حالتي كانت تستدعي إسعافي وإجراء عمل جراحي، يومها تمنيت الموت عن هذه الحياة”.
وتشكو سندس من المياه الموزعة داخل المخيم وأنها غير نظيفة ولا يشربون منها، وقالت: “يأتي مع المياه دود أبيض وأحمر، يكون لونها ترابيًا، من شدة ملوحتها لا نستطيع شربها، ومن يشربها يشكو أنها لا تروي العطشان”.
وبدأت قصة سفرها إلى سورية عندما كانت مقيمة في تركيا وتعرفت هناك على شاب مصري كان يعمل في شركة سياحية، أخبرها أنه سيسافر إلى سورية للعيش في مناطق تنظيم داعش المتشدّد، ووعدها بالزواج وذهب بمفرده سنة 2015 وبعد شهر تواصل معها وطلب منها المجيء.
وبعد وصولها إلى سورية بطريقة غير شرعية، قتل حبيب سندس بغارة جوية من طيران التحالف الدولي بقيادة أميركا، وقالت: “أحببته وقبلت اللحاق به، لكنه قتل قبل وصولي إليه، كانت صدمة كبيرة ولم أعلم ماذا أفعل”.
وبحسب سندس، وضعت في مضافة النساء المهاجرات التي كانت عبارة عن غرفة صغيرة توجد فيها أكثر من 30 امرأة، كل واحدة منهن كان معها طفل أو أكثر، وأضافت: “المرحاض كان صغيرًا ولا توجد فيه حمامات والجميع أصيب بأمراض معدية”، ووصفت المضافة بسجن مقيت يحرسه عناصر التنظيم، حيث كانوا يقفلون الأبواب ويمنعون النساء والأطفال من الخروج، وتزيد: “كنت ممنوعة من التواصل مع أهلي. في البداية ظنوا أنني ميتة، بعد فترة قصيرة تقدم لي مقاتل ثانٍ خليجي الجنسية فوافقت دون تردد، كي أخرج من الحبس الذي وضعت فيه”.
ولم يدُم زواجها الثاني سوى شهر و20 يومًا، وقتل زوجها وترك لها طفلة صغيرة، وشرحت أنها مصابة بسوء التغذية، وقالت: “نقلتها للمشفى لكن بسبب نقص وزنها لا يضربونها بالإبر وعلاجها بطيء، وبسبب درجات الحرارة العالية تشكو من الأمراض ولا تتماثل للشفاء”.
وتنتظر السودانية سلطات بلدها للسماح لها ولطفلتها بالعودة إلى مسقط رأسها. عبرت عن ندمها وقالت مستجدية: “الحياة هنا لا تطاق وشمس الصيف حارقة، حقيقة إنه معسكر مغلق”، وذكرت أن دبلوماسيًا سودانيًا وصل إلى المخيم وأجرى مقابلات مع السودانيات، “شرح أن إجراءات السفر ليست سهلة، قد تأخذ بعض الوقت، آمل ألا نتأخر أكثر من ذلك”.
وتروي المواطنة التونسية عفراء البالغة من العمر 32 سنة، أنها وصلت إلى سورية عبر تركيا أواخر 2014 رفقة زوجها التونسي وأطفالها الأربعة، ظنًا منهم أنهم يقدمون يد المعونة والمساعدة للشعب السوري، لكنها تروي اليوم من تحت خيمتها بمخيم الهول زيف الصورة وأكاذيب دعايات التنظيم.
وعلى غرار عشرات الآلاف من النساء والأطفال وبعد انتهاء العمليات العسكرية في الباغوز، نقلت عفراء وأطفالها إلى مخيم الهول، بينما نقل زوجها وباقي الرجال إلى السجن للتحقيق معهم للاشتباه بانتمائهم إلى التنظيم المحظور.
تتحدر عفراء وزوجها من تونس العاصمة، حيث تزوجت بعد إنهاء دراستها الثانوية، من شاب تونسي ملتزم دينيًا أوائل 2010. عاشت حياة طبيعية بين أهلها، وفي أحد الأيام تردد زوجها إلى جامع الحي واستمع إلى خطبة الإمام، وكان يحث المصلين على الهجرة إلى سورية والعراق والقتال في سبيل الله.
بعد عودته لاحظت زوجته تأثره بخطيب الجامع وأخبرها قراره السفر إلى سورية لتقديم المساعدة. وأكدت أنّ أطفالها لم يتعلموا أو يذهبوا إلى المدارس طوال وجودهم في سورية.
في هذه البقعة الصحراوية من سورية التي تبعد 30 كلم عن الحدود العراقية، تتعدى درجات الحرارة 45 درجة مئوية، تتلقى النساء المهاجرات مساعدات محدودة تقدمها لهن المنظمات الدولية، ومن أمام مستودعات توزيع السلال والحصص الغذائية المقدمة من برنامج الغذاء العالمي ومنظمات أميركية، تنتظر طوابير لا تنتهي من النساء، وكان بالإمكان مشاهدة سيدات حوامل وأخريات يحملن أطفالًا رضعًا حديثي الولادة.
وتنتظر عفراء وزوجات عناصر التنظيم انتهاء التحقيق مع أزواجهنّ، والحصول على جواب من سفارة بلادهن للعودة إلى وطنهن.
قد يهمك أيضًا: