الرئيس قيس سعيد والدكتورة نجلاء بودن

أحدث الإعلان غير المسبوق عربياً عن حكومة ترأسها سيدة ونحو نصف وزيراتها من السيدات «صدمة إيجابية» في تونس التي تمر بأزمات اقتصادية وسياسية كبيرة منذ مدة، فاقمتها مضاعفات جائحة «كوفيد - 19» والاضطرابات في ليبيا، وتزايد التوتر بين المغرب والجزائر من جهة، وبين باريس والجزائر من جهة أخرى. إلا أن الترحيب بتشكيلة حكومة الأكاديمية الدكتورة نجلاء بودن سرعان ما اقترن بظهور بوادر «أزمة دبلوماسية» و«فتور علاقات» غير مسبوقين بين تونس وشركائها الأوروبيين والأميركيين، بلغت حد تخصيص جلسات خاصة بملفات «مستقبل الشراكة» مع تونس في الكونغرس الأميركي والبرلمان الأوروبي. أيضاً، تعاقبت الانتقادات داخل تونس وخارجها للحكومة الجديدة التي شكك عدد كبير من البرلمانيين والسياسيين والحقوقيين في «شرعيتها»؛ لكونها «لم تحظ بمصادقة البرلمان المنتخب عليها وعلى قرار إقالة حكومة هشام المشيشي».

لقد شهدت الأزمة السياسية الاقتصادية التونسية «تدويلاً سريعاً»، في الآونة الأخيرة، انخرطت فيه بقوة كل من واشنطن وباريس وبرلين وبروكسل ومجموعة «السبعة الكبار» - بما فيها اليابان وكندا - عبر سلسلة من البلاغات المشتركة والتصريحات المثيرة والحملات الإعلامية في مواقع قريبة من كبار صنّاع القرار. ولئن تراجعت تدريجياً أصوات المعارضين لقرارات الرئيس التونسي قيس سعيّد يوم 25 يوليو (تموز) الماضي، التي أدت إلى «تجميد البرلمان» وحل حكومة هشام المشيشي، فإنها عادت بقوة داخلياً وخارجياً في أعقاب المرسوم الرئاسي 117، الصادر يوم 22 سبتمبر (أيلول) الماضي الذي عزز كثيراً صلاحيات رئيس الجمهورية.

والحال، أن هذا المرسوم الرئاسي أدى عملياً إلى حلٍ نهائي للبرلمان، وتعليق الدستور، وتمديد الإجراءات «الاستثنائية» من دون سقف زمني، وإلى اعتماد «نظام مؤقت» للحكم أسند صلاحيات البرلمان والإشراف على كل مؤسسات الدولة التنفيذية والتشريعية والقضائية إلى مجلس الوزراء. وهذا الأخير أسندت رئاسته إلى رئيس الجمهورية، وسط تساؤلات عن الدور السياسي الجديد للمؤسستين العسكرية والأمنية، وكذلك عن مستقبل بعض المؤسسات العليا «المستقلة» التي تشرف على قطاعات القضاء والإعلام والثقافة وعالم المال والأعمال... إلخ.

- «تدويل» سريع للأزمة

ومن ثم، أخذت الانتقادات أبعاداً خطيرة عندما انخرط فيها عدد من السفراء الغربيين في تونس، وعدد من رؤساء الدول والحكومات والبرلمانات في الولايات المتحدة والدول الأوروبية و«مجموعة البلدان الفرنكوفونية» التي تضم 88 بلداً؛ ما أوحى بـ«تدويل الأزمة التونسية».

وحقاً، أضحت تونس خلال وقت قياسي قبلة عشرات الوفود الحكومية والبرلمانية والحقوقية والإعلامية الدولية الرفيعة المستوى، بينها موفدون من الرئيسين الأميركي جو بايدن، والفرنسي إيمانويل ماكرون، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ورئاسة المفوضية الأوروبية، وقيادة حلف شمال الأطلسي (ناتو).

وفي الوقت نفسه، تعاقبت بشكل غير مسبوق المكالمات بين الرئيس قيس سعّيد وعدد من كبار صناع القرار في العالم وفي المنطقة، بينهم ماكرون، وميركل، ووزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، ومستشار الأمن القومي الأميركي جايك سوليفان - وقبل ذلك، كامالا هاريس نائبة الرئيس الأميركي. وهذا، فضلاً عن مباحثات سعيّد مع عدد من قادة الدول العربية والأفريقية.

وكان لافتاً بالذات، أن ستيفن تاونسند، قائد القيادة العسكرية في أفريقيا (أفريكوم)، عندما زار المنطقة أخيراً، فإنه التقى في الجزائر الرئيس عبد المجيد تبون، وفي ليبيا رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة، لكنه اكتفى في تونس باجتماع مع رؤساء أركان الجيش في المطار بحضور السفير الأميركي في تونس دونالد بلوم. وللعلم، قرر الرئيس بايدن هذا الأسبوع نقل السفير بلوم إلى باكستان من دون أن يعين خلفاً له.

وحول هذه النقطة، ربط الإعلام التونسي بين قرار نقل السفير الأميركي والجلسة التي عقدها الرئيس التونسي معه في قصر قرطاج الرئاسي. وأعلنت الصفحة الرسمية للرئاسة، أنه أبلغه فيها «احتجاجاً رسمياً على تخصيص الكونغرس الأميركي جلسة حول تونس» معتبراً ذلك نيلاً من «السيادة الوطنية» للدولة التونسية.

- النقابات والأحزاب

من جهة أخرى، رغم إصدار القيادات النقابية بلاغات تنتقد «التدخل الأجنبي» في شؤون تونس، عقدت في مقرات اتحاد نقابات العمال وبعض الأحزاب وكبار السياسيين عشرات الاجتماعات مع الدبلوماسيين والموفدين الأجانب، بينهم وزراء خارجية وبرلمانيون أوروبيون وأعضاء في الكونغرس الأميركي؛ وذلك «لمطالبة الرئيس التونسي وحكومة نجلاء بودن بالعودة للمسارين الديمقراطي والبرلماني».

وطالبت الوفود الأجنبية في تصريحات بعد تلك الاجتماعات باحترام «المكاسب الديمقراطية التي تحققت منذ 2011 بدعم مالي أوروبي وأميركي» تجاوز الـ12 مليار دولار أميركي؛ بهدف دعم الاستقرار والأمن في تونس وفي كامل المنطقة، والترويج للنموذج التونسي عربياً وإسلامياً وأفريقياً».

- ضغوط... واحتجاجات

وخلافاً لما عُرفت به السياسة التونسية التقليدية من حرص على البروز في موقع «الشريك المميز» لـ«ناتو» وواشنطن والدول الغربية و«السبعة الكبار»، تزامن تشكيل حكومة نجلاء بودن مع تصعيد الضغوط البرلمانية والحكومية والعسكرية الغربية على السلطات التونسية. وكانت الذريعة ملفات الديمقراطية وحقوق الإنسان وقرارات تجميد الدستور والبرلمان، وكذلك بروز مؤشرات عن احتمال ضرب مبدا الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية تحت عنوان «مواجهة الخطر الداهم».

في المقابل، احتج الرئيس التونسي في تصريحاته - سواءً إبان لقاءاته برئيسة الحكومة بودن وفريقها الوزاري أو بالوفود الأجنبية - على الدول التي اتهمها بمحاولة النيل من «السيادة الوطنية لتونس» والتدخل في شؤونها الداخلية. وحمل سعيّد بقوة على الجهات الأجنبية والتونسية التي تسببت في تجميد عضوية تونس في اتحاد برلمانات الدول الفرنكوفونية و«تأجيل» قمة البلدان الفرنكوفونية التي كان من المقرر تنظيمها بنهاية العام الحالي في جزيرة جربة السياحية التونسية. وطلب الرئيس من النيابة العمومية فتح تحقيق ضد الرئيس الأسبق الدكتور المنصف المرزوقي؛ بسبب تصريحات أورد فيها أنه طلب من أصدقائه في الحكومة الفرنسية الامتناع عن تنظيم القمة الفرنكوفونية في تونس «قبل عودة البرلمان وتفعيل الدستور والمسارين الانتخابي والديمقراطي».

وكما هو معروف، نظمت حملة إعلامية ضد المرزوقي بسبب هذه المواقف، واتهمه أنصار الرئيس سعيد بـ«الخيانة الوطنية»، وطالبوا بتجريده من جواز السفر الدبلوماسي ومن منحة التقاعد التي تخصص لرؤساء الدولة السابقين. وفي هذه الأثناء، نظم آلاف النشطاء والشباب عبر المواقع الاجتماعية حملات مساندة لخطاب سعيّد ضد واشنطن والحكومات الغربية.

في المقابل، طالبت غالبية قيادات الأحزاب والنقابات، وبينها نور الدين الطبوبي زعيم «الاتحاد العام التونسي للشغل» وأحمد نجيب الشابي، الزعيم المعارض، الرئيس التونسي بـ«قرارات وطنية وقائية تحمي تونس من التدخل الأجنبي»، على رأسها الإعلان عن «خريطة طريق» تضمن العودة قريباً إلى المسارين الديمقراطي والبرلماني، وإن لزم الأمر عبر الدعوة إلى «انتخابات مبكرة».

- دعم «الجبهة الداخلية»

الشابي اعتبر أن الرد على «التدخل الخارجي يكون بدعم الجبهة الداخلية من خلال احترام الدستور والقانون وصندوق الانتخابات». وحذر من إجهاض فرصة تعيين امرأة مستقلة على رأس الحكومة بسبب «أزمة الشرعية». وطالب، من ثم، السلطات بالتجاوب مع عشرات الآلاف من الشباب والمواطنين الذين نظموا مظاهرات عدة في تونس وخارجها للمطالبة بالعودة إلى «المسار الديمقراطي». وفي السياق نفسه، وصف الفاضل عبد الكافي، وزير المالية السابق وزعيم حزب «آفاق تونس»، حكومة نجلاء بودن بكونها «فرصة»، لكنه رأى أنها «حكومة ناقصة للشرعية بسبب افتقارها لمصادقة برلمان منتخب عليها».

أيضاً، نوّه قادة «تنسيقية القوى الديمقراطية» بزعامة خليل الزاوية، زعيم حزب التكتل الديمقراطي، وغازي الشواشي، زعيم حزب التيار الديمقراطي بكون غالبية الشعب ترفض التدخل الأجنبي، ورحبوا بـ«بصدمة» 25 يوليو. لكن غالبية الشعب، حسب تقديرهم، عارضت قرارات 22 سبتمبر التي لم تعلن عن إعادة فتح البرلمان أو عن تنظيم انتخابات جديدة في ظرف بضعة أشهر. ومن جانبه، ناشد وليد جلاد، البرلماني والقيادي في حزب «تحيا تونس»، الرئيس سعيّد «قطع الطريق» أمام التدخل الأجنبي عبر الإعلان عن إصلاحات وخطة واضحة تضمن إعادة تفعيل الدستور والمسارين الديمقراطي والبرلماني واحترام القيم الكونية وبينها الحريات العامة والفردية.

أما شاكر الحوكي، مدير قسم العلوم السياسية في كلية الحقوق بتونس، فأعرب في حديث لـ«الشرق الأوسط» عن تخوّفه من أن تهدر تونس فرصة تعيين حكومة ترأسها امرأة وتضم 10 نساء من أصل 24 وزيراً بسبب قرارات 22 سبتمبر التي توحي بجر البلاد إلى أزمة سياسية اقتصادية اجتماعية طويلة، وبإحداث «فراغ برلماني» و«انقلاب على الدستور» وعلى المؤسسات المنتخبة... مقابل تضخيم دور السلطة التنفيذية المركزية على حساب بقية المؤسسات الدولة والهيئات المستقلة التعديلية.

- عين على ليبيا والجزائر

في سياق موازٍ، من أكبر التحديات التي تواجه حكومة بودن، حسب ما أورده الخبير الاقتصادي والمالي رضا الشكندالي في تصريحه لـ«الشرق الأوسط» أن «مستقبل الأزمات الهيكلية والظرفية التي تواجه الاقتصاد والموازنات المالية للدولة رهين معطيات دولية كثيرة، من بينها إعادة كسب ثقة مؤسسات التصنيف الدولية، مثل (موديز) وصندوق النقد الدولي الذي توقفت المفاوضات معه منذ مايو (أيار) الماضي». واعتبر الشكندالي، أن مصير حكومة بودن، أو أي «حكومة إنقاذ» سيظل رهين «كسب ثقة كبار المانحين العرب والدوليين وتسوية الخلافات بين السلطات التونسية مع المؤسسات المالية الدولية حول صناديق الدعم والتعويضات، وتضخم عدد الموظفين، ومستقبل الشركات العمومية المفلسة، وبينها كبرى شركات النقل والمحروقات والكهرباء والغاز والمياه».

وعلى الصعيد الخارجي، رأى البشير الجويني، الدبلوماسي السابق في ليبيا والخبير في العلاقات الدولية، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن مصير حكومة نجلاء بودن والدولة التونسية سيتأثر بـ«المتغيرات السريعة في ليبيا والجزائر وفي العلاقات بين الدول المغاربية». وتوقع الجويني، أن يؤدي نجاح المسار السياسي والانتخابي في ليبيا، وإعادة فتح حدود تونس مع الجزائر وليبيا، وتنقل ملايين السياح والتجار والعمال الليبيين والجزائريين والتونسيين بين البلدان الثلاثة، إلى توفير مداخيل مهمة للدولة التونسية التي تواجه عجزاً في توفير رواتب الموظفين وجرايات المتقاعدين. وكذلك إلى إيقاف معضلات التضخم وغلاء الأسعار ونقص احتياطي البنوك والدولة من العملات الأجنبية. وبالفعل؛ ما يؤكد هذا التلازم بين المسارات في ليبيا وتونس والجزائر تنظيم عدد من كبار المسؤولين الغربيين أخيراً زيارات لتونس على هامش مشاركتهم في مؤتمرات «التسوية السياسية للأزمة الليبية».

- خطوات إلى الأمام... ولكن

هذا التداخل بين المتغيرات في تونس، والتطورات في ليبيا والجزائر، والتصعيد الجزائري المغربي وفي بعض دول الساحل والصحراء، يؤكد فرضية مزيد من «تدويل» أزمات المنطقة، وبينها الأزمة السياسية الاقتصادية الجديدة في تونس التي تسبب بـ«ماراثون» من التحركات والاجتماعات داخل الكونغرس الأميركي والبرلمان الأوروبي ومؤسسات حكومية سياسية وأمنية واقتصادية عديدة. بل، وتزايد التأكيد على التداخل بين الأبعاد الأمنية وتسوية الأزمات في تونس وليبيا بعد تطورات أفغانستان، وتقدم مسار مفاوضات ترحيل «الميليشيات الأجنبية» من ليبيا وسوريا وتركيا والعراق وأفغانستان.

هذا، وأثار عدد من مشرّعي الكونغرس الأميركي هذه المسألة أخيراً في جلسات مناقشة الملف التونسي بواشنطن. وجرى التأكيد، بالخصوص، على أن «تعثر المسار الديمقراطي واستفحال الاضطرابات في تونس» أمر قد يساعد على تسلل مجموعات من الإرهابيين التونسيين والأجانب إلى تونس من بؤر التوتر، وخاصة ليبيا ومالي ودول الساحل والصحراء الأفريقية.

التحذير الأميركي من خطورة انفجار الوضع الأمني مجدداً يتزامن مع صيحات مماثلة صدرت عن مجموعات من البرلمانيين الأوروبيين اليساريين والحقوقيين، وعن مسؤول ملفات الأمن والسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل. وفي الوقت نفسه، دعا برلمانيون أوروبيون إلى «دعم السلطات التونسية اقتصادياً، وإعادة تفعيل المسار التعددي والديمقراطي، من أجل كسب ورقات الانتصار على الغلو والتطرف والإرهاب والهجرة غير القانونية، وأيضاً دعم مسارات التسوية السياسية للنزاعات في المنطقة، بدءاً من ليبيا ودول الساحل والصحراء الأفريقية».

قد يهمك أيضــــــــــــــــًا :

الإعلان عن اتفاق يوناني فرنسي يثير غضب تركيا ويضر "حلف شمال الأطلسي"

"الإخوان" في تونس يلجأون إلى هجوم عنيف ضد الرئيس التونسي قيس سعيّد