روما - دلال قنديل
وسائل التواصل أصدق إنباءاً ببث حي حتى الرمق الأخير وسخرية يوسف سيدة الموقف.
أحداث غزة تُكتب بالدم بعدما قارب عدد الاطفال الشهداء والمفقودين بعد شهر من القتال العشرة الاف. لابد أن يكتب التاريخ يوماً أنه على تلك الارض سقطت نظرية الاعلام الغربي الحر ،كانت الفجيعة كبيرة بإعلام معظمه إلتزم النظرة الواحدة ومارس حتى في أعرق مؤسساته الدعاية الاعلامية للعمل الوحشي الاسرائيلي دون التدقيق في المعلومات أو البحث عنها وذلك الى حين إنكشاف زيف الصور الملفقة لأطفال أتهم الفلسطنيون بقطع رؤوسهم.
كانت تلك الصور الملفقة تبث مراراً وتكراراً على مدى الايام الاولى الى جانب الصور التي بثتها حركة حماس لإقتحاماتها وتعد التقارير على الصور المكررة.
ماذا عن المشهد الإنساني في الجانب الآخر ،حيث تدور المعارك الفعلية؟لم نسمع عنها الكثير في البداية.ليس فقط لأن إسرائيل منعت دخول الصحافيين والمصورين الى المناطق الفلسطينية التي تشبه السجن الكبير،بل الافظع ما إنكشف لاحقاً ولا بد أن تتم متابعة تداعياته في الآتي من الأيام، أن بعض الاعلام تبرع بدوره المحايد وتورط في حملة ترويج إسرائيلية لتسعير الدعايةوحض الرأي العام على تبني نظرية الإبادة: “أقتلوهم”ذاك الشعار الذي بدا عنواناً للحملة الاسرائيلية.
لم تتردد بعض الوسائل الاعلامية بإلتسليم للترويج عن قصد او غير قصد والتورط بالدعاية الاسرائيلية بلغة خالية من التوازن .
أصدر بعضُ الإعلام الغربي حكمه المسبق على مليونين ونصف مليون فلسطيني يقيمون في غزة بوصمة سياسية بإعتماده تعبير “مناطق حركة حماس”.
بعد إنكشاف زيف الصور الملفقة، بعد الأيام الخمسةالأوائل،تبدلت اللهجة.فترت الهمم في الدفاع الأعمى عن ما يجري.تفلتت مشاهدُ مجازر الأطفال الفلسطنيين المؤثرة عبر وسائل التواصل الإجتماعي،
البث الحي من مواقع سقوط الصواريخ على منازل المدنيين والمراكز الطبية وصولاً الى قصف مستشفى “المعمدانية” هزت الصورة المعلبة للحدث.
لم يشكك الإعلاميون الغربيون للوهلة الاولى بالحكم الذي أطلقه الرئيس الأميركي خلال لقائه رئيس الحكومة الاسرائيلية بأن الصاروخ الذي حصد الابرياء في المستشفى أطلق عن طريق الخطأ من مواقع “حماس”.بقي تصريحه يتردد ليومين الى ان رفض مسؤول العمليات العسكرية في الجيش الاسرائيلي مبدأ المحكمة الدولية و التحقيق في الحادثة ،بموازاة افلام مصورة نُشرت على مواقع التواصل من قبل فلسطينين للحظة إستهداف المستشفى توضح الجهة الاسرائيلية التي إنطلق منها الصاروخ.
هكذا جاء بعض الاعلام الغربي للميدان مكتفياً بالبحث عن دلائل تثبت الرواية السياسية التي أرادها لجعلها حقائق ولا حاجة بالمطلق لشيء آخر.
بهذه العبارات واجهت صحافية مصرية زميلتها الاميركية من شبكة السي ان ان عند معبر رفح معترضة على إحدى رسائلها.غير أن القضية لم تنته هنا.أجرت الصحافية الاميركية حديثاً معها تضمن اللوم الذي واجهتها به ولم تقتطع من الحوار تلك الجمل.ربما ذلك كان إحدى علامات التراجع عن إخفاء الوجه الآخرفي التغطية الاعلامية.طبعاً حصد هذا الحوار مئات آلاف المشاهدات حول العالم.وتداول الجميع بإعتباره إحدى تجليات إنتصاراته.
تلك الإشارات في مطلع الحرب هزت الرأي العام الغربي، طرحت لديه تلك شكوكاً،بات يبحث عن مصادر اخرى لإستشراف إتجاه الحدث.
بدأت بشائر تحول الرأي العام وتوسعت الدائرة لعدد المغردين والذين إنتقلوا من التلقي الى التأثير بنشر ما يصلهم او يتلقونه من مئات الافلام المصورة والشهادات الحية للناجين،بمن فيهم تلك الأسيرة الأسرائيلية المحررة التي تحدثت عن معاملة إنسانية تلقتها من خاطفيها وأصرت على مصافحتهم لحظة إطلاقها وهي في حماية الصليب الأحمر الدولي في لحظة بث مباشر ،لا مجال لتغيير الواقعة أو تدخل مقص المونتاج.عمدت شبكات تلفزة أميركية لتحريف ما قالته في صياغة ترجمة مؤتمرها الصحافي.لكن المَشاهد طرحت عند المتلقي اسئلة أتاحت لاحقاً جلاء الحدث بلا تدخلات.
المتلقي إنتقل الى موقع التفاعل بعد أيام من الشحن، شاهدنا نواباً وأطباء وأكاديمين وصحافيين ينشرون بالصوت والصورة ما يتلقونه.طرحوا أسئلة على مسؤوليهم وحكوماتهم ورؤسائهم عن صوابية موقفهم.لا بل ذهبوا بإتهاماتهم لهم حد التواطىء بالمشاركة في تلك الجرائم من خلال شعارات تكررت مع صور الاطفال الضحايا “أنت بصمتك شريك في الجريمة”.
خرج الصوت المناهض للحرب واكتسح مواقع التواصل بشعار موحد ” أوقفوا الحرب على غزة” او “أوقفوا القتل في غزة”.
قرار منع التظاهر السلمي الذي تراجعت عنه فرنسا تحت ضغط رأيها العام الملتزم بتربيته على قيم الحرية،تمسكت به ألمانيا مهددة بسحب الجنسية من كل من يتجرأ على التضامن مع الفلسطنيين.
عمت التظاهرات المدن الكبرى لمعظم الدول الغربية والاوروبية.
وكانت مليونية في لندن ونيويوك ولوس أنجلس على التحديد.التغطية الاعلامية لتلك التظاهرات وإن تفاوتت بين جهة وأخرى ،لم تغب عن نشرات الأخبار والصحف.
مع تلك الوتيرة المتصاعدة رُفعت شعارات في لقاءات وندوات أكاديمية للعودة الى تاريخ فلسطين وقيام إسرائيل وتردد تعبير “النكبة” الذي كان مُغيَباً في الرواية الأولى التي كانت تنطلق كل يوم من تاريخ السابع من تشرين الاول -أكتوبر وإقتحام حركة ” حماس” المستوطنات الاسرائيلية والملاهي الليلية وأخذها المدنيين رهائن فاقوا المئتين رهينة إضافة الى عسكريين بعضهم برتبة كبار الضباط .
عاد التاريخ هنا ليشكل صورة الحدث .
أَخضعت موازينُ الرأي العام المؤثر في الغرب إعلامه للمساءلة الاولية بطرحه حقائق بديلة،تداولَها وتَشَارَكها مع شريحة باتت تتوسع يوماً بعد يوم.
إرتفعت قيمُ التضامن الإنساني أمام هول المجازر .لعبت الهيئات الدولية ولا سيما الاطباء في منظمات محايدة ك “أطباء بلا حدود” دوراً ببث شهادات حية لطواقمها العاملة داخل قطاع غزة كالطبيب الذي تحدث من مستشفى “الشفاء” داحضاً الادعاء الاسرائيلي عن إتخاذ “حركة حماس” المستشفى مقراً.
لا بد من أن ليلة قصف مستشفى “المعمدانية” كانت لحظة التحول الكبرى في سياق الحدث الاعلامي.مشاهد الجثث المتفحمة والاشلاء التي جمعت بمقابر جماعية أتاحت إنتقال المتلقي في الغرب الى مسافة أبعد من الصورة التي يرسمها السياسيون أو الاعلام للحدث.
صور الأطفال الشهداء التي جُمعت ببوستر “ليسوا ارقاماً” تلك العبارة المترجمة لأكثر من تسع لغات هزت ذاك الجمود.
تناقلت وسائل التواصل الإجتماعي روايات عن قتل الأطفال ومشاهد فجيعة الفقد كحكاية “يوسف” الذي اصبح أيقونة غزة ورمزاً لحرب إبادتها. ذاك الطفل الجميل الذي وصفته والدته في رحلة بحثها عنه ب “الأبيض الحلو وشعره كرلي” . أعادت الينا الواقعة بفيلم قصير صوره زميل والده الذي يعمل في مستشفى لحظة وصول الوالدة .أعادنا الفيلم الى إنفجار بيروت ومأساة الضحايا،الى والدة “علي” في رحلة ألاسى قبل عثورها على جثماته “إبني أبيض وحلو “.
أعادت خصلات شعرالطفل الاشقر الحلو “يوسف” وجه “كريستينا” إبنة الاربع سنوات التي كانت ضحية الإنفجار الزلزال في مرفأ بيروت وبقيت صورتها مرتبطة بالعلم اللبناني الذي تشاركته مع أهلها والمتظاهرين في إنتفاضة ١٧ تشرين الاول – أكتوبر.
ليس الزمن قدرياً،بل المآسي ترتسم بمشهدية التكرار عبر التاريخ مع فارق أن الصورة بفضل التداول باتت أكثر سطوعاً.عشنا فقدان “يوسف” سمعنا صوت شقيقه الأصغر
“اريد اخي أريد يوسف”
الفيلم، الذي بقي دون مونتاج ولم يتجاوز الدقيقتين، هز الضمائر في نفوس الغربيين الذين تربوا على قيم الإنسانية. جاءت المجازر مسبوقة بصوت الام التي ندهت اولادها السبعة.الفيلم لا يصل الى الدقيقة.ستون ثانية من مشهد مأساوي حي. بقيت إبنتها تحاول ردعها في لحظات المرارة،الأم تدور حول نفسها بلا وعي بعدما سقط السقف على رؤوس سبعة من أطفالها. أصيبت بهستيريا فقدانهم ” يا الله ياعالم شوفوا إشهدوا اولادي ماتوا جوعانين”.تلك السرديات هي قلب الأعلام الحي وقالبه في تغطية الحروب ،سيرة البشر هي الفحوى.هذه القصص لم تروَ في الاعلام الغربي الذي بقي فوق الحدث بأحكام مسبقة وإن تفاوتت نسبة تورطه مع الوقت بالإنحياز أو مقاربة الموضوعية.كانت تغطيته جافة إن لم تكن مجافية للحقيقة.
الناجون من الاطفال لم ينطقوا أجسادهم المرتجفة،عيونهم الجاحظة جراء الصدمة،أحدهم كان نائماً بقرب والده صعدا معاً للسماء،بقيت صورتهما عالقة في مشهد المأساة المتراكم. طفل آخر إستيقظ على هول القصف ليعيش وحيداً بلا عائلة،تكفل أحد الممرضين بإحتضانه وإعادة الروح الى قلبه .
صورة الطفل المستلقي في حضن والده جُمعت مع صورة والد “محمد الدرة” الذي لا يلبث أن يطل من الماضي البعيد ،يحضر مرة أخرى كضحية مجزرة متجددة.
مع الأيام،تضخم عدد الذين كانوا قلة، تقدمت شريحة واسعة من الرأي العام من موقع التشكيك بالمعلومةالى البحث عن مصدر الحقيقة ولاحقاً إنتقل جزء منها الى موقع التفاعل مع الحدث.
لا بد أن عقدة الذنب التي يعيشها الغرب إزاء “الهلوكوست”عززت تمسك شريحة واسعة من
مواطنيةبضبابية الرؤية .
الرأي العام نفسه محكوم ، بنسب متفاوتة، أيضاً برهبة “الاسلام فوبيا”،يتلمس المتابع ذلك في كل مقطع حواري على شاشات التلفزةوفي كل تغطية صحافية لأحداث غزة على مدى الشهر الاول من حرب الإبادةفي غزة.
“أيقونات البشر” من الأطفال والنساء مثلوا سردية الحدث الذي اتاح تغيير المزاج العالمي وفرض على الاعلام الغربي تغيير موازينه بعد تجاهله في الأيام الأولى للمأساة .
آلاف من المتابعين لصفحات مواطنين في غزة كانوا بالأمس القريب مغمورين.يكفي أن يخرقوا التعتيم الاعلامي بسرد وقائع ليلهم ونهاراتهم المعذبة. كل صباح ينشرون لوائح خسائرهم في الليلة الماضية،يحدثوننا عبر صفخاتهم عن إنقراض عائلاتهم وأقاربهم وتقلص عدد الاحياء من محيطهم رويداً رويداً.على تلك الصفحات نُشر مرة أربعون إسماً لعائلة بأجيالها الثلاثة مع الجد والست لجأوا الى منزل في مربع وصفته مناشير القوات الاسرائيلية بأنه آمن وخارج نطاق غاراتها ،إستهدفه بصاروخ واحد.كتب الناجي منهم على صفحته:”قد تكون هذه آخر تغريداتي”.أمام هول هكذا مصاب ماذا يتبقى من الحياة؟
ربما تلك التغريدات منحت دافعاً لمن بقي أن يتشبث بالحياة ليروي سيرة الموت المكرر .هي حكاية الف ليلة وليلة ممتدة على مدى تاريخ منطقة محكومة بالتاريخ والجغرافيا وبصراعات لا تهدأ.
في سجن غزة المحاصرة منذ سنوات إتسعت نوافذ الضؤ للاطلالة على الخارج بإعلام فردي وحضور تلفزيوني عربي لمندوبين فلسطنيين من سكان القطاع .
ذاك الشاب بعينيه الحادتين، شعره الفحمي، كان يوجه نداء الاستغاثة يقول :”ليس لأجلي بل لأجل المدنيين النساء والأطفال والعجزة أنقذونا…”تأتي كلماته متقطعة مع صدى القصف الذي يقترب على مسمع منا ،نحن متابعوه من قارات العالم كافة،يقترب صوت القصف أكثر فأكثر حتى تهتز الجدران خلفه وحوله ويسقط الهاتف ونسقط في فراغ العتمة معه.في لحظة الموت العلني المكشوف من أي ستر أو دعاية. على موقع “إكس”بقيت رسالته تلك علامة فارقة يتداولها أشخاص من العالم أجمع،تُرجمعت كلماته وهمساته الى كل اللغات، أضيفت شهادته الى سجل الإبادة الجماعية ،تصلح تلك الشهادةمرجعاً لمدى تأثير “العَامة” في الرأي العام.
الموتى قبل الغياب تركوا بصمتهم لكن العالم الفاعل غير المتلقي لرسائلهم لم يحرك ساكناً.
قافلة الموت لا تعرف عدداً نهائياً ولائحة “المفقودين” تحت الانقاض بالمئات .
سبعة وعشرون صحفيًا سقطوا منذ السابع وحتى السادس والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول بحسب لجنة حماية الصحفيين: 22 فلسطينيًا، وأربعة إسرائيليين، ولُبناني هو مصور وكالة رويترز المصور التلفزيوني المميز بمرحه وإبتسامته عصام العبدالله، إستهدف من الاسرائيليين على الحدود اللبنانية وهو يرتدي خوذته وأصيب عددٌ من رفاقه دون أن تكون الإشتباكات محتدمة.بعد الحادثة سُحبت معظم طواقم عمل الوكالات الدولية من تغطية أحداث الجنوب.
كذلك تم الإبلاغ عن إصابة ثمانية صحفيين في حرب غزة، وفقدان واحتجاز تسعة آخرين، بالإضافة إلى استمرار الهجمات والاعتقالات والتهديدات لعدد من الصحافيين.
مسؤول مكتب الجزيرة في قطاع غزة وائل الدحدوح ومندوب تلفزيون الغد في الضفة الغربيةمحمد الفرا تبلغا على الهواء إستشهاد افراد عائلتيهما.خاضا أصعب إمتحانات الحياة بذاك الخبر المفجع والشعور بالفقدان المر،أي مصاب أقوى من هكذا مصاب؟.بقيا على صلابتهما المهنية.ظهر وائل بعد إنقضاء مراسم الدفن مباشرة على الهواء قال لمحدثه من الاستديو:” لا وقت للحزن في خضم المعركة”وكذلك كابر محمد الفرا على مرارة الفقد وأكمل مهماته .كأنهما أرادا أن يقولا دعونا ننقذ من يمكن إنقاذه. نلتقط أنفاسنا لاحقاً أو نسقط في حزن الجراح التي لا تلتئم على مدى عمر كامل.عندما نعود الى بيوت باردة خالية من انفاس من نحب عندها لا شيء سوى الحزن.
هنا تبدلت المواجهة بات الاعلام عدو القوات الاسرائيلية إبتكرت بذلك إسلوباً فتاكاً ظالماً جديداً في إنتهاكاتها للقوانين الدولية.
إستهداف عائلات الصحافيين كان إنتقاماً إسرائيلياً وحشياً، واجهت جرأتهم على الهواء بنقل الوقائع التي يشاهدونها بقتل فلذات قلوبهم وتدمير منازلهم.كما إنتقمت من الصحافية الأيقونة شيرين أبو عاقلة بقتلها عمداً وبدم بارد وعمدت في حربها الحالية لإزالة نصبها التذكاري من الشارع الذي إستهدفتها فيه لا بل جرفته بكل ما فيه.
كانت شيرين بعينيها المتقدتين حاضرة وشاهدة على المجازر بتغريدات مئات آلاف المتابعين الذين نشروا صورها.
عبَرَ المئات عن إفتقادهم لحضورها وإنحيازها للنقل الموضوعي الحي للأحداث.هذا التفاعل والتناغم بين الصحافي وجمهوره لا بد أن يرفع من قيمة الغاية الاعلامية الى قيمة إنسانية أسمى بكثير.وهنا يقارب الصحافي الذي ينالها وصوله المبتغى والمعنى لرسالته.
بالمقابل ظهرت فضائح على شاشات وفي الصحف العربية والأجنبية الناطقة بالعربية ويكفي هنا أن نرصد حجم الاستقالات و التبدلات في مواقع قرار بعض المؤسسات الاعلامية لنكتشف حجم الكارثة المرتكبة بإسم الموضوعية الصحافية.*.
شعر الاسرائيليون بالخطر المحدق من بشائر تحول الرأي الغربي عنهم في الاسبوع الثالث من التدمير.ترجموا ذعرهم بقطع الانترنت وشبكات الاتصال عن المدنيين في غزة في الليلة الاولى لمحاولة التقدم البري الفاشلة.تراجعوا عن الاقتحام ولم يتراجعوا عن قرار حجب الاتصالات والانترنت عن أهالي القطاع وعمدوا لتزوير حسابات ناشطين فلسطنيين لبث اخبار ثبت لاحقاً انها مغلوطة عن تقدمهم البري في القطاع.
المدنيون المتضرر الوحيد بقرار عزل غزة عن العالم،الكل يعلم أن لدى “حركة حماس” وسائل إتصال خاصة ومستقلة بشبكات سلكية مقفلة وأخرى مشبوكة بالعالم الخارجي، شبكة داخلية مرتبطة بأنفاقها التي إزدادت مع السنوات عمقاً، ليصل البناء فيها وفق ما كشف بعض الصحافيين الفلسطنيين الى ثلاث طبقات، داخل سراديب خفية تشبه المتاهة بخرائط سريةمتعددة، سُربت نسخٌ مزورة منها الى القوات الاسرائيلية بحسب مقالات نشرت مؤخراً عن كيفية تطوير ” حماس ” لقدراتها.
خرج محللون يسألون عن تواطىء القيمين على وسائل التواصل الاجتماعي مع القرار الاسرائيلي بالتعتيم على جرائم الإبادة بحق الفلسطنيين في غزة.تحت ضغط المطالبة بفك “حصار الاتصالات” أتاح موقع “x” لهيئات الاغاثة والمسؤولين الدوليين إمكانية الإنضمام للشبكة .
عين المتابع لا بد أن تسجل ايضاً في نقاط التحول المؤثرة في الرأي العام الغربي والأميركي بالتحديد ،
مداخلةالطبيب المصري الناشط باسم يوسف المقيم في أميركا التي تحولت بذكائه وسحر تأثيره مناظرة بجزئين.تحدث يوسف ببديهيته عن تجربته الشخصية وهو متزوج من فلسطينية.قال ” اعرفهم جيداً زوجتي فلسطينية ،إذا أرادت شيئاً نالته،هذا شعب لا يموت،إسألوني.مهما حاولتم لن يموتوا بالقصف لا تحل القضية”. مساجلته الساخرة التي تغلب فيها على أحد اهم مقدمي البرامج البريطانيين بيريز مورغان رفعت عدد متابعي يوسف ملايين مضاعفة في يوم واحد ليصل عدد الذين شاهدوا اللقاء الذي تحول مناظرة لاحقاً الى خمسة وعشرين مليون متابع عبر منصة”x”.
رقم لا بد أنه أحدث فرقاً كبيراً في المزاج الغربي العام،رغم إنتقادات بقيت خافتة الصوت بأنه تم إستغلال المأساة الانسانية من بعض المشاهير لتحقيق تفوق على صفحاتهم في وسائل التواصل،لكن كيف يمكن الجزم بذلك قبل إختبار فعلي والتجرؤ بالموقف،هنا ظهر باسم يوسف مغامراً بموقفه وصادقاً لأنه وقف بوجه العاصفة الجامحة للرأي العام المعارض للفلسطنيين والداعم لاسرائيل آن ذاك،وبنجاحه غيرت العاصفة مسارها فإرتفع ولم ينكسر.
تقييد صفحات الناشطين المدنيين من أهالي غزة وشبابها الذين عمدوا الى نشر يومياتهم،أسقط إدارات مواقع التواصل في زيف حرياتها. كان تقييد الحسابات يحصل بسبب وبدون سبب ، الكلمات المفاتيح باتت تكتب مقطعة الأحرف ومنها إسم فلسطين بعدما حذفت خارطتها عن محرك غوغل.
قبل أن تدمر غزة وتنزل أبنيتها على رؤوس اصحابها أُسقطت من حسابات العالم الافتراضي الذي بات عالمنا البديل الإلزامي.
أظهرت الحرب كم يُلزمنا هذا الفضاء الوهمي “الحر “على التقيد بمقاييسه والا أصبحنا خارجه ،وقد ظهر بالتجربة العملية كم هو بدوره حياتنا البديلة،نَعبُرُ من خلاله الى وجودنا الافتراضي وشبكة اصدقائنا،دونه العزلة والعدم.
بعدما أطبقت العتمة على غزة وعُزلت عن العالم في يوم محاولة إقتحامها البرية الاولى،كأن العالم اراد أن يغمض عينيه عن المجزرة والابادة التي ترتكب هناك.نُشر بعدها بوست مؤثر ” لا تستيقظوا أطفال غزة يُقتلون”.
نجحت المناشدات التي عُممت تلك الليلة كهاشتاغ موحدوأثمرت عودة محدودة للانترنت في بعض مواقع الاغاثة الدولية بقرار شخصي إستجاب فيه إيلون ماسك المشرف على موقعx
لرغبة متابعيه ومناشداتهم التي تلقاها على حسابه.
وهل أنقذت تلك المشاركات ود الأحياء من الموت الذي حصد الآلاف من الابرياء في غزة؟ بالطبع لا.لكنها أسهمت بلا شك في إبطاء تضخم اعداد الابرياء الذين ينتظرون قدرهم، ومنحتتا كمتلقين ومتفاعلين مع هول المجزرة، شعوراً متواضعاً بتأجيل القضاء والقدر ما دامنا عاجزين عن رده.
المتلقون في الغرب
شريحة واسعة من الباحثين والاعلاميين ،باتوا ينظرون بعين النقد للاعلام في نقله الحدث الفلسطيني.
اين الالتزام بشعارات رفض خطاب الكراهية التي شكلت عنواناً لقاموسنا الاعلامي في السنوات الاخيرة؟هذا بعض من قضايا قيد التداول لا بد أن تضج بها هيئات ومؤسسات معنية بعد أن يسكت المدفع.
بدأت إستقالات مسؤولين كبار في مؤسسات ثقافية واعلامية من أصول عربية وإسلامية وبنسب أقل من غربيين تشير الى أن الأمر لن يتوقف هنا .لا بد سيتم التمعن بالتجربة وبما أصبغته السياسة على الاعلام من تجرد المعايير والقيم حتى لو كانت من البديهيات.
بالمقابل ،شهدنا في معركة غزة إبتعاداً عن الخطابات التعبوية السياسية المعتادة في زمن إحتدام المواجهات .بإستثناء إطلالات رئيس الحكومة الاسرائيلية المضطربة تحت ضغط تفاقم النقمة الداخلية عليه بعد إخفاقاته المتكررة، يمكن القول على الجانب الفلسطيني إن الشارع النازف المتألم كان كفيلاً وحده بالتعبئة لصالح أهالي غزة. ولعل قادة “حماس” أدركوا أن الخطاب العلني من داخل أرض المعركةيضرهم .لذا لاحظنا أنهم إكتفوا بتصريحات سياسية لقادتهم من الخارج بدت بعيدة عما يجري على الأرض.وشاهدنا عبر إعلامهم الحربي بث أفلامهم المصورة منذ إختطاف الاسرى ،الى رفع أعلام فوق مراكز إسرائيلية وصولاً لاحتراق دبابات الميركافا عند تخوم غزة.
مقاطع مقتضبة بلغة عسكرية خاطفة لم يغب عنها المنحى الديني،أطل فيها المتحدث الملثم بإسم “كتائب عزالدين القسام”الجناح العسكري لحركةحماس.تغييب هوية المسؤول الاعلامي كما تغييب هوية قائد عملية السابع من اكتوبر في حماس “محمد الضيف” إستفزا اسرائيل .كانت حرب المعلومات بشأن كشف شخصيتهما اولى محاولات تعويض الخسائر الاسرائيلية.
وُزعت صورة إفتراضية “ديجيتال” لوجه مفترض للمتحدث بإسم الجناح العسكري،كما نسجت في وسائل إلاعلام أفلاماً عن “الضيف” وحياته وسيرته الحافلة بالنجاة من محاولات إغتيال متكررة بعد خروجه من السجن وجعلته يتماهى مع لقب “الضيف” ولا يستقر في منزل لأكثر من ليلة.ورغم الجهد الاسرائيلي ما زالت المعلومات غير نهائية عن دقة وضعه الجسماني جراء إصابته الأخيرة في قدميه.
يستنتج مما تقدم أن التكنولوجيا الاعلامية كانت سلاحاً متفوقاً في الحرب.كان لافتاً أن يتمكن شبان فلسطينيون من إستخدامها في مواجهة دولة تتصدر اولى المراتب عالمياً في صناعة المعلومات.سيطروا على بث التلفزيون الاسرائيلي مراراً عبر تمرير كتابات وقرصنة الشريط الاخباري ،حتى انهم قطعوا بث رسالة مندوبة القناة ١٣ للتلفزيون الاسرائيلي وبثوا النشيد الوطني الفلسطيني .
هذا التفوق ما كان ليحصل لو لم يكن في غزة قوة شبابية حية لم يظهر بعد إذا كنت تنضوى تحت لواء تنظيمي تابع لفصائل مسلحة أو تمت بمبادرات فردية.وهو إحتمال يدفعنا اليه الجهد الملحوظ بالترويج للحق الفلسطيني على ألسنة شابات وشبان ظهروا بأفلامهم بعيدين عن صورة الالتزام الديني الذي يطبع مناصري “حماس”و”الجهاد” كركيزتين للعمل الفلسطيني المنظم في غزة . بعض تلك الاساليب إستخدم موسيقى “الراب” والدبكة والموسيقى الكلاسيكية،البعيدة بالطبع عن ثقافة الجهات السياسية المسيطرة.
في محصلة الأحداث ،خرجت إستقالات عديدة لبرلمانيين وأكاديمين وصحافين شغلوا لسنوات مراكز مرموقة سجلوا إعتراضهم على أداء مؤسساتهم.
على صفيح حرب عالمية تُشرِحُ خارطة الشرق الاوسط على غرار ما جرى في إتفاقية سايسبيكو،على هذا الصفيح الساخن ثمة قائل أن الطبيعة البشرية الميالة للتقاتل ستجد قوة تدميرية أعتى منها،هي الطبيعة ذاتها،التي تئن في كوكبنا وتخرج أصواتها بين حين وآخر ،زلازل وفيضانات الى ان يحين وقت الإنفجار الكبير.
الاعلام لن يغير الواقع المأساوي ،يكفيه ان يتمايز بالتفوق لرسالته، بأن يصان بعيداًعن البروباغندا والأكاذيب وتزوير التاريخ،يكفيه أن يكون مرآة الواقع وحتمية القدر كفيلة بما تبقى.
الجرح في غزة مازال مفتوحاً معه يصعب ان نرى الحرائق بعين مجردة لا يطالها اللهب في عز الحريق.لا بد أن نبتعد قليلاً بعد أن تهدأ حرارة الحدث لنستخلص الدروس من التجارب.
لم يخدم القضية الفلسطينية أحد كالمفكر إدوار سعيد الذي نقل عدوى إنتماءه الفلسطيني لشريحة واسعة من الأكاديميين الغربيين وعبرهم للعالم أجمع وحدثهم بلغاتهم التي حفزت تفكيرهم وعواطفهم معاً .كما نقل بكتاباته “اللامنتمية” الينا نحن العرب فكرة أن نكون اوفياء لمعرفتنا غير المكتملة،وتجاربنا ولا نركن لما نتلقنه، لا نقف عند حد في إطلاق الفكرة الى أقصى مدى، نطلق الافكار للبعيد البعيد،كذاك الحجر الذي اطلقه قرب الحدود اللبنانية مع فلسطين عند بوابة فاطمة ،ولم يسلم من رشقات العديدين من نظرائه الاكاديميين الأميركيين بسببه.
ربما من المفيد اليوم العودة قليلاً الى الخلف لبعض صناع الوجدان الفكري الفلسطيني، يركز غسان كنفاني في كتابه “الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال”الذي كُتب منتصف الستينيات على قضية التعليم كأحد ركائز العنصرية الصهيونية التي يجب مواجهتهايغوص في تفاصيل التمييز في فرص التعليم وطرد المثقفين والاساتذة وملاحقتهم من قبل الاحتلال الاسرائيلي.
كأننا نسمع صدى صوته اليوم مع ما يردُ على ألسنة العارفين من اهل قطاع غزة بتفاصيل إنطلاقة الهجوم الأول في السابع من اكتوبر ومناداة عناصر حماس لمسؤولي المواقع الاسرائيلية بأسمائهم.يقولون :”كانوا يعرفون مواقعهم واعداد جنود الحراسة وخارطةتوزعهم.”كيف ذلك لولا قرصنتهم لداتا معلومات دسمة للخطط العسكرية الاسرائيلية.
يقر رئيس الحكومة الاسرائيلية أن أحداً لم ينذره قبل وقوع العملية في السابع من تشرين الاول اكتوبر،هو قول يجنح بنا لتصديق الرأي القائل بأن قادة حماس لم يكونوا على علم بتوقيتها ايضاً ،بعدما نفى مسؤولون إيرانيون علمهم المسبق ايضاً بتوقيت العملية. لانورد ذلك من باب السجال السياسي بل لتثبيت مقولة أن علوم المعرفة والتكنولوجيا هي جزء أساسي من المعركة. الجوانب السياسية التي كان يحاكم من خلالها فقط بعض الاعلام الغربي غزة في الماضي،أول الطريق للخطيئة التي ترتكب اليوم بحق الإنسانية على أرضها.لم يسمع الناس هنا بالفعل قبل هذه الحرب عن بقعة تسجل إحدى أعلى نسب الاكتظاظ السكاني.
اليوم خرجت قصائد شعر تحكي عن “مكان يسود فيه الصمت ،وينام فيه الأطفال جياع ولا يستفيقون إنه غزة.”
غزة قبل الحرب والإبادة،بقعة خارج الضوء كانت تنقصها اولى مقومات الحياة الانسانية من حقوق الفرد والطفل في الأكل والشرب والطبابة والتعليم وقبل كل ذلك حرية التعبير.
هل ذنب الغرب وحده أنه لم يرانا ،وسط همومه المتراكمة،أم ذنبنا أيضاً بأننا لم نُحسن مخاطبته؟هل يكفي بعد كل ما جرى أن نتلو آيات العزاء على الشهداء ؟
إعلام فلسطيني يفترض أن يولد ولينمو يفترض أن يكون تعددياً وحراً .
شارع إسرائيلي آخر بدأت صورته تتظهر مع قوافل المغادرين،مع إهتزاز التحالف الحكومي اليميني الرافض لحد أدنى من التسويات العادلة،مع تصدع صورة رئيس حكومته الملاحق بإتهامات لا تحصى .
كل ذلك يفترض بإلاعلامين المهتمين والباحثين درجة من الوعي والمسؤولية،النظر بعين النقد والبحث التي لا تنجو منها ايضاً تظاهرة في بيروت لمجموعة من الشبان الغاضبين وجدت في تحطيم واجهة مدخل الجامعة الاميركية وسيلة للتعبير عن التضامن مع غزة.متناسين او ربما لم تصلهم معلومة أن نخبَ “حركة القوميين العرب” ومعظم القادة الفلسطنيين كجورج حبش وغيره قد جلسوا على مقاعد ذاك الصرح العلمي .
قد يهمك أيضــــــــــــــــًا :
الجيش الإسرائيلي يقصف قطاع غزة جواً وبراً وبحراً وحصيلة الضحايا في ارتفاع متواصل
إسرائيل تحاصر غزة والمقاومة تتصيّد دباباتهم و تتوّعد بتحويلها مقبرة ونتانياهو يقّر بالخسارًة