نيران المحرقة تلتهم فتاة كردية كل 20 ساعة

تداول ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، صورا لطالبة كردية في جامعة بعشيقة في مدينة أربيل، قيل إنها قتلت على يد والدها حرقا وقال الناشطون على مواقع التواصل قبل يومين، إن "الطالبة (س.ن) من مواليد 1994 وتم حرقها بسكب البنزين عليها من قبل والدها".

ونقل مصدر طبي في أحد المستشفيات في مدينة أربيل قوله إن "الفتاة نقلت إلى المستشفى قبل حوالي أسبوع من الآن، وكانت نسبة الحروق في جسدها 100%، وقد فارقت الحياة بعد أسبوع من بقائها في المستشفى يوم أمس الجمعة".

يذكر أنه وفي هذه الأثناء، كتب شخص باسم فرزين كريم على صفحته الشخصية في "فيسبوك" تعليقا على قتل الفتاة، يعتقد أنه خال الفتاة، كتب فيه "هل تتذكرين (س، ن) لقاءنا قبل احتراقك، وقلتي لي إن أصحابك رأوني في ميكامول وقالوا لكي أنكِ تشبهين خالك فرزين؟".

وسط رائحة "الشواء البشري كانت الفتاة التي تكاد تطغى على المكان وتتسلل، ببطء، إلى باقي ردهات المستشفى، كانت الفتاة الكردية المحترقة قبل ساعات فقط، تردد بما يشبه الهستيريا "لن أغفر له أبدا".

(س ،ن) التي انصهرت ملامح وجهها وغابت وسط اللفافات الطبية البيضاء، كانت تتحدث عن والدها (س.ن) الذي حرقها بعد حياة امتدت نحو 17 عاما.

لم يكن ضابط التحقيق الذي خرج قبل وصولنا بدقائق هو الذي غير أقوال (س،ن)، فهي بنفسها أبلغته قيام أبيها بسكب البنزين حتى تسلل إلى ثيابها ولم يتمكن الأطباء من إنقاذها.

وفي تقرير أعده ناشطون في كردستان يؤكد انتشار حوادث الانتحار حرقا في أربيل، الإحصاءات المثبتة في هذا التحقيق لا تبين عدد النساء اللاتي قتلن على أيدي أفراد من العائلة أو أجبرن على حرق أنفسهن على خلفية قضايا الشرف، ولا تشمل هـذه الإحصـاءات أيضا، المنتحرات اللاتي تم دفنهن في المقابر الصغيرة على سفوح الجبال المحيطة في قرى كردستان من دون إبلاغ السلطات المعنية. بينما سيكون مقدرا على الفتاة الثلاثينية جيهان التي قابلناها في الغرفة المجاورة لغرفة (س، ن)، أن تعيش ما تبقى من حياتها بوجه وجسد مشوّهين.

جيهان التي نجت من الموت بأعجوبة لأن النار التهمت 45% من جسدها فقط، أبلغت ضابط التحقيق أن احتراقها لم يكن انتحارا بل كان حادثا عرضيا "ليس إلا"، ورغم أنها تستغرب كيف أن الضابط كان يقود التحقيق باتجاه تسجيل الحادث على أنه "حادث عرضي"، لكنها تعترف في ذات الوقت بأنها كانت بحاجة فعلا إلى أن يتواطأ معها الضابط ويوافق على توثيق روايتها "المليئة بالأكاذيب المتناقضة".

أخفت جيهان عن ضابط التحقيق، وعن كاتبي التحقيق أيضا، حقيقة الأسباب التي دفعتها إلى الانتحار حرقا، لكنها لم تنكر أنها كانت ستكشف الحقيقة كاملة لو لم يؤكد لها الأطباء بأنها ستنجو من الموت بسبب اقتصار الحروق على الأجزاء الخارجية من جسدها فقط.

تعترف جيهان مجددا أن الخوف من التعرض للأذى وربما القتل على أيدي أفراد العائلة سيكون خيارا سيئا لكل فتاة تنجو من الانتحار حرقا وتتركها الدولة تواجه مصيرها منفردة.

يروي الباحث عبدالجبار زيباري، كيف أن ثلاثا من الفتيات اللاتي نجون من محاولات الاحتراق حرقا، قتلن في ما بعد في ظروف غامضة. إحداهن، وهي كوران ذات الـ17 ربيعا، سقطت قبل نحو أربعة أعوام من سطح المنزل "بشكل عرضي" وهي تحمل في جسدها بضع طعنات بآلة حادة.

كوران وجيهان ونادين، وثماني منتحرات أخريات التقاهن كاتبا التحقيق وتوفي أربع منهن بعد ساعات من إجراء اللقاءات، تشبه قصصهن إلى حد بعيد قصص 14 ألف فتاة يعتقد أنهن أحرقن أنفسهن (أو تم إحراقهن) خلال الأعوام 1991- 2010 في كردستان العراق.

هؤلاء النسوة كن ضحايا ظاهرة الانتحار حرقا التي يقول خبراء اجتماع، ناشطون مدنيون، جهات رسمية معلنة أو فضلت عدم الكشف عن هوياتها، إن معدلاتها ما زالت ترتفع بشكل كبير بسبب عجز المؤسسات الحكومية والدينية والعشائرية والمدنية عن إيقافها، لتصبح هذه الظاهرة التي عرفت بـ"محرقة النساء" واحدة من أبرز المظاهر المأساوية التي ارتبطت بنساء منطقة كردستان العراق خلال الـ20 عامًا الأخيرة.

النيران تلتهم فتاة كردية كل 20 ساعة
يحيل الباحث ئاوات محمد، اختيار نساء كردستان العراق للانتحار حرقا كوسيلة للخلاص من الحياة، إلى تأثير الديانة الزرادشتية التي كانت سائدة في المنطقة قبل ظهور الإسلام، فالنار في هذه الديانة تطهر الإنسان من كل الذنوب التي اقترفها طوال حياته. بالمقابل، هناك باحثون يعتقدون أن شيوع ظاهرة الانتحار حرقا بين نساء كردستان سببه في الغالب، قرب مصادر النيران من يد المرأة أكثر من باقي وسائل الانتحار التي قد تتطلب تحضيرات، مثل الموت شنقا أو الانتحار برصاصة بندقية.

وسواء ارتبط الانتحار حرقا بطقوس دينية قديمة أم بسهولة الوصول إلى مصادر النيران، فإن الأرقام التي جمعها كاتبا التحقيق وفقا لإحصائيات رسمية وغير رسمية، تشير إلى أن ظاهرة الانتحار حرقا في كردستان العراق تتصاعد عاما بعد عام رغم كل التحذيرات الدولية والمحلية التي أطلقت للحد من هذه الظاهرة.

تشير الأرقام التي تبنتها المؤسسات الرسمية في كردستان إلى أن العام 1991 شهد قرابة الـ39 حالة انتحار حرقا سجلتها دوائر الشرطة في المدن الكردية الرئيسية، بينما سجلت نفس هذه الدوائر 441 حالة انتحار حرقا عام 2010، أي بمعدل فتاة منتحرة كل 20 ساعة.

لكن ما بين عامي 1991 و2010، سجلت مؤسسات رسمية في الإقليم أرقاما أخرى تكشف جزءا من الحجم الحقيقي للظاهرة، ففي العام 1996 كان هناك 831 حالة انتحار حرقا في مدن كردستان، تقابلها 1590 حالة حرق في مدينة السليمانية لوحدها عامي 2005 و2006، بواقع 778 و812 حالة انتحار حرقا على التوالي، حسب مستشفى الطوارئ في المدينة.

غابت عن الإحصائيات الرسمية الكردستانية، حالات الانتحار حرقا التي شهدتها مدن كردية أخرى لا تخضع إداريا لإقليم كردستان مثل قضاء سنجار الذي يسجل سنويا أعلى معدلات الانتحار في مدن العراق.

حتى منتصف هذا العام (2011)، وصلت نسبة المنتحرات حرقا إلى رقم يزيد قليلا على نسبة المنتحرات في العام الماضي. كما تقول مسؤولة في مديرية مكافحة العنف ضد المرأة رفضت الكشف عن الرقم الحقيقي بسبب اعتقادها أن نشر الأرقام سيوقع الجهات المعنية في "أزمة جديدة" مع الإعلام ومنظمات المجتمع المدني.

الإحصائيات المثبتة في هذا التحقيق، لا تبين عدد النساء اللاتي قتلن على أيدي أفراد من العائلة أو أجبرن على حرق أنفسهن على خلفية قضايا الشرف. ولا تشمل هذه الإحصائيات أيضا، المنتحرات اللاتي تم دفنهن في المقابر الصغيرة على سفوح الجبال المحيطة في قرى كردستان دون إبلاغ السلطات المعنية.

غياب الإحصائيات الرسمية الموثقة، وتخبط المنظمات المدنية في تحديد عدد المنتحرات، وتجنب أغلب مراكز البحوث المتخصصة في كردستان العراق متابعة هذا الملف بموضوعية، أضاع على المعنيين بملف الانتحار حرقا قاعدة معلوماتية مهمة كان يمكن من خلالها تشخيص الظاهرة وتحديد طرق الحد منها، كما يقول الباحث زيباري.
 
حوادث "عرضية"
يعتقد الباحث عز الدين حافظ أن "غياب الحقائق" عن سجلات الشرطة واقتصار أغلب ملفات الانتحار حرقا على عبارة "حادث عرضي"، يجعل من المستحيل على أي باحث أن يفهم ما الذي يجري بالضبط في كردستان العراق. فالكثير من "الحوادث العرضية" لم تكن مقنعة حتى بالنسبة إلى بعض ضباط التحقيق الذين تحدث معهم الباحث حافظ في وقت سابق وأبلغوه بأنهم كانوا يسجلون إفادات المنتحرات بغض النظر عما إذا كانت التفاصيل منطقية أم لا، فالنتيجة التي كان يتوقعها هؤلاء من الغوص في العمق في مثل هذه القضايا، هو الدخول في مشاكل عشائرية هم في غنى عنها.

الشيء نفسه، أشار إليه ضابط تحقيق اكتشف من خلال عشرات الحالات التي وثقها، أن النساء المحترقات يعمدن في الغالب إلى كتم الحقيقة لتجنيب عوائلهن المشاكل مع عائلة الزوج. حاول الضابط في كثير من المرات الضغط على المنتحرة لانتزاع قصة حقيقية تبين سبب إقدامها على الانتحار، لكن جهوده كانت بلا جدوى.

سوران التي وافق أحد ضباط التحقيق على تسجيل روايتها غير المقنعة حول الكيفية التي تعرضت فيها للاحتراق، خمنت أن ضباط التحقيق يريدون أن يسجلوا إفادات لا تعرض أي شخص للمساءلة، لذلك لا يلحون في طرح الأسئلة ولا يشككون بأي معلومة تذكرها المنتحرة.

تقول سوران إن هذا ما حدث معها، تماما مثلما حدث مع بقية المنتحرات التي قابلتهن طيلة فترة بقائها في المستشفى.

الفتاة بروين هي الأخرى قالت إنها غيرت أقوالها أمام المحققين، وإنهم تقبلوا منها رواية "مفبركة" عن تعرضها للاحتراق أثناء "الطهي" من دون أن يطرحوا المزيد من الأسئلة. خرجت بروين في ما بعد من المستشفى بجسد مشوه، لكنها قالت لكاتبي التحقيق "لو شعرت أنني لن أنجو من الموت وأعود إلى ذات المنزل، كنت سأقول الحقيقة كاملة".

خلل في عمل السلطات.. أم تواطؤ مع الأعراف؟
تغيير أقوال المنتحرات أمام المحققين كان السمة التي ميزت معظم القصص التي تابعها كاتبا التحقيق، وهو ما يحيله الباحث عز الدين حافظ إلى الخوف من ردة فعل العائلة التي قد تؤدي إلى تعقيد وضع المنتحرة الناجية، لينتهي الأمر ربما بـ"نتائج أسوأ من الموت".

بخلاف الباحث حافظ، لا تثق الباحثة الاجتماعية سوسن قادر كثيرا بفكرة أن غياب الحقائق عن سجلات المحققين في قضايا الانتحار حرقا، سببه الوحيد هو حرص المنتحرة وعائلتها على كتمان المشاكل العائلية التي أدت إلى محاولة الانتحار، فهي تعتقد أن هناك أكثر من علامة استفهام تلف طريقة تعامل السلطات التنفيذية والقضائية مع ملف المنتحرات حرقا.

الباحثة قادر تخمن أن هناك تغاضيا عما يحدث. لكن الضابط المتخصص بالتعامل مع مشاكل النساء في مديرية العنف ضد المرأة شيلموا عبد لقادر، ينفي "بشكل قاطع" إمكانية حصول أي تهاون في قضايا الانتحار حرقا، فالمديرية "تحرص على تطبيق التعليمات" وتصر على معرفة الحقائق التي باتت تتكشف الآن أكثر مما كان سائدا في السنوات الماضية حين كانت المرأة تقتل وترمى في النهر أو تحرق جثتها ثم يقيد الحادث ضد مجهول.

يرفض عبدالقادر إعطاء كاتبي التحقيق أي تفاصيل عن الحقائق التي كشفتها المديرية باعتبارها تحقيقات خاصة بها، لكنه يقر بأن أكثر من 80% من المنتحرات يتجنبن قول الحقيقة خوفا من الفضيحة أو من تعرض عوائلهن للمساءلة القانونية.

يبرر عبد القادر موافقة المحققين أحيانا على تمرير إفادات "غير معقولة" لبعض المنتحرات، بأن المديرية ليس في وسعها دائما "إجبارهن على قول الحقيقة".

يعتبر الباحث حافظ هنا، أن البيئة المحافظة التي ينحدر منها أغلب المحققين يجعلهم يفكرون ألف مرة قبل تسجيل أي معلومات تضر بسمعة العائلة داخل الوسط الكردستاني المحافظ. ويقدم قصة الفتاة دلفين باعتبارها نموذجا لتواطؤ المحققين مع ما تقره الأعراف السائدة حتى لو كان "على حساب الحق والعدل". فدلفين التي غيرت أقوالها حين استجوبتها السلطات المختصة، تعرضت بحسب الأوراق الرسمية الى "حادثة احتراق بالمدفأة النفطية"، أما أصل الحكاية فهي أنها أحرقت نفسها بعد ان حاول شقيق زوجها الاعتداء عليها أثناء غياب زوجها.

كتمان دلفين لـ"فضيحة أخو الزوج" لم يعفها من عقوبة زوجها الذي طلقها على الفور وأعادها الى أهلها، كامرأة مطلقة كل ما بقي لها "جسد مشوه" والكثير من علامات الاستفهام التي تحيط بحياتها.
 
الأسرة.. بيت الداء
يعتقد الخبراء والباحثون الذين وثقوا حالات الانتحار حرقا في كردستان العراق، أن العنف الأسري بكل إشكاله، والتمايز الطبقي، وتساهل السلطات مع الممارسات العشائرية القاسية تجاه المرأة مثل ظاهرة غسل العار وغيرها، وعدم كفاية القوانين التي تعالج قضايا العنف ضد المرأة، فضلا عن اتساع ظاهرة الزواج المبكر، وتخلي الكثير من رجال الدين والمؤسسات الثقافية والمدنية في التثقيف المضاد لظاهرة الانتحار حرقا، هي الأسباب الرئيسية لتزايد أعداد المنتحرات في منطقة كردستان العراق رغم كل ما شهدته المنطقة من مظاهر التطور ثقافي والاجتماعي وعمراني خلال الأعوام الماضية.

اللافت في الأمر، أن كل هؤلاء اختلفوا في مقدار تأثير كل عامل من هذه العوامل على صعيد استمرار واتساع الظاهرة، لكنهم أجمعوا على أن الحياة الأسرية هي البوابة الأولى التي تنطلق منها الرغبة، وأحيانا الحاجة، إلى الانتحار حرقا.

تعتقد البرلمانية السابقة والناشطة في شؤون المرأة بخشان زنكنة، أن العنف الأسري هو السبب الرئيسي لشيوع ظاهرة الانتحار حرقا، فالمرأة التي تتعرض للعنف لمجرد أنها "أنثى" تعاني في الغالب من "ذات مهشمة"، لا تساعدها على الصمود في وجه الضغوط العائلية.

تستشهد زنكنة هنا بتقديرات منظمات النسائية تشير إلى أن 82% من المنتحرات حرقا خضعن لضغوط عائلية دفعتهن إلى الانتحار، بينما تقدم الناشطة المدنية جيمن محمد صالح التي تتابع منذ سنوات قضايا العنف ضد المرأة في كردستان، أطروحة مطابقة لما تذهب إليه زنكنة، فظاهرة الانتحار حرقا كما ترى صالح سببها الرئيسي هو "العنف والاضطهاد الاجتماعي والإحساس بالظلم والوحدة".

أغلب النساء اللاتي التقتهن صالح اشتكين من الضغوطات المجتمعية التي يتعرضن لها مثل الضرب العنيف أو الإذلال.

الابنة الكبري للمنتحرة نادين، نياز ذات الـ15 عاما، تصف المعاناة التي قاستها والدتها على يد والدها (س. ع) بالمأساوية، فقد كان يبالغ في إهانتها والتقليل من شأنها حتى أمام الآخرين، وغالبا ما كان يفضل أسلوب الضرب لإنهاء أي مشكلة عائلية، وهذا كله، كما تعتقد نياز، تسبب في النهاية بدفعها لحرق نفسها خلاصا من تلك الحياة القاسية.
 
الزواج المبكر
تعتقد الباحثة سوسن قادر، أن الزواج المبكر وما يتبعه من تداعيات، هو من أبرز المشاكل التي تفضي إلى الانتحار حرقا، وتشير قادر في هذا الصدد إلى تقارير محلية بينت أن أكثر من 70% من حالات الانتحار ترتبط بالزواج بالإكراه أو عدم التفاهم مع الزوج.

الزواج مبكرا كما تقول قادر، يعرض المرأة لمواجهة ضغوطات الحياة القاسية في سن مبكرة، وفي حال عجزت الزوجة الصغيرة عن تحمل ضغوط أم الزوج أو أخواته أو باقي أفراد العائلة، فقد تلجأ إلى الانتحار حرقا كحل أخير.

أحرقت شيرين ذات الـ18 عاما نفسها بعد أن عجزت عن إيجاد طريقة للتفاهم مع زوجها الذي تزوجته بالإكراه، تقول شيرين إنها كانت تعيش معه قبل أن تحاول الانتحار حرقا "جحيما لا يطاق". لكن يبدو أن قدرها هو أن تعود إلى هذا الجحيم مجددا بجسد مشوه، ونقمة من الزوج والأهل، ونظرة ازدراء من مجتمع لا يرحم.
 
حب.. وخيانة
تحاشت عائلة نازلين التي لم تكمل عامها الـ17 بعد، طوال يومين كاملين، الحديث عن أي تفاصيل حول "حادثة" احتراق ابنتهم التي كانت تتلوى ألما على سرير موتها المرتقب. واكتفت والدتها التي منعت كاتبي التحقيق من الاقتراب من سرير نازلين بشكل قطعي، بالقول إن الحادثة كانت "قضاء وقدرا"، وإن كل ما في الأمر أن نازلين لم تحسن التعامل مع تنور الخبز فاحترقت بالنار.

ضابط التحقيق اكتفى بتسجيل رواية والدة نازلين وغادر المستشفى. دون أن تتمكن صديقتها "روناهي" من البوح بالسبب الحقيقي لانتحارها حرقا، فقد كانت نازلين "ناقمة على العائلة لأنها لم توافق على زواجها بحبيبها الذي تقدم لخطبتها".

قصة أخرى ترويها لنا ابنة عم الفتاة المنتحرة سوز، فرغم مرور 11 عاما على انتحارها، ما زالت قصة سوز مطبوعة في ذاكرة كل من أحاط بها. سوز أحرقت نفسها بالقرب من بيت حبيبها بعد أن تخلى عنها وتزوج بفتاة أخرى.

نفس النتيجة تقريبا كانت حصيلة قصص أخرى تابعتها الباحثة الاجتماعية شيلان دوسكي، فقصة العشق البريئة بين نرمين وحبيبها تسببت بغضب الأهل وقادتهم إلى تزويجها قسرا من أحد رجال العشيرة.

قبل حفل الزفاف بيوم واحد أحرقت نرمين نفسها للخلاص من الزواج القسري، لكن أهل العريس طالبوا برد "الاعتبار" ومراعاة المبالغ التي صرفوها في تجهيز مستلزمات الزفاف. القضية انتهت بتسوية عائلية دفعت أخت نرمين ثمنها حين اضطرت للموافقة على الزواج بالقريب الذي لم يكن يفرق عنده كثيرا إن كانت العروس نرمين أو أختها.

كازين ذات الـ30 عاما، كانت ضحية أخرى لظاهرة الانتحار حرقا، ولكن هذه المرة بطريقة مغايرة تماما، فكازين التي تزوجت عن طريق (المبادلة) تحولت حياتها إلى جحيم بعد أن أقدمت زوجة أخيها (بديلتها) على الانتحار حرقاً.

حتى الآن تتعرض كازين، كما تقول دوسكي، لأشكال متعددة من الإذلال والاهانات من قبل زوجها وعائلته وصلت في إحدى المرات إلى تعرضها لكسور نتيجة الضرب العنيف من قبل الزوج.

تشير الباحثة دوسكي إلى أن بعض الحالات التي تابعتها، ارتبطت على نحو كبير بالغيرة أو الشكوك المتعلقة بعلاقات الزوج خارج إطار العلاقة الزوجية أو السعي للزواج من امرأة أخرى، فأميرة التي حاولت الانتحار حرقا بعد أن اعتقدت أن زوجها يسعى للزواج من إحدى قريباته، خرجت من المستشفى بجسد مشوه وصلت نسبة الحروق فيه إلى نحو 66%.

تمايز طبقي
يعتقد الباحث سعد بازياني أن اعتبار الفقر من العوامل الرئيسية لاتساع ظاهرة الانتحار حرقا، هو افتراض "غير موفق" ولا يمكن الركون إليه. فوفقا لإحصائيات وزارة التخطيط هناك معدل فقر لا يتجاوز 3% في مدينتي أربيل والسليمانية، تقابله معدلات فقر تصل إلى 49% في محافظة المثنى و40% في ديالى و37% في ميسان و34% في كل من مدينتي الناصرية والبصرة أقصى جنوب العراق.

يقدم الباحث بازياني أطروحة جديدة يعتقد أنها تشرح العلاقة بين الأوضاع الاقتصادية وظاهرة الانتحار حرقا، مفادها أن التمايز الطبقي الذي ارتفع بشكل لافت خلال العقد الأخير في كردستان، هو من ساهم في ارتفاع معدلات الانتحار حرقا وليس الفقر الذي بدأ بالانحسار في عموم مدن كردستان بشكل ملحوظ.

يؤيد موظف حكومي انتحرت زوجته حرقا قبل نحو ستة أشهر، ما ذهب إليه الباحث بازياني. كاميران الذي يتسلم راتبا شهريا يناهز المليون دينار (850 دولار)، خسر زوجته كيشان بسبب عجزه حتى بعد ان حصل على عمل ليلي كسائق سيارة أجرة، عن توفير المزيد من المال الذي تنفقه زوجته غالبا في شراء الملابس والكماليات، سعيا منها لمجاراة أخواتها المتزوجات من أشخاص ميسوري الحال يعملون في التجارة إضافة إلى عملهم في المؤسسات الحكومية والحزبية.

غسل العار
غالبا ما كانت حوادث الانتحار المرتبطة بقضايا غسل العار تأتي ضمن حديث هامس مع كاتبي التحقيق، لكن وثائق التحقيق تخلو تماما من أي إشارة من هذا النوع.

تشكك الباحثة الاجتماعية سوسن قادر، في أن يكون ارتفاع معدلات الانتحار حرقا مرتبطا بـ"دوافع متعلقة بغسل العار"، فالعائلة الكردستانية كما تقول قادر "لا تتردد في قتل ابنتها اذا ما تورطت بأي قضية تتعلق بالشرف، حتى قبل أن تفكر الفتاة نفسها بالانتحار".

تورد قادر للدلالة على كلامها قصة فتاة كردية قتلها والدها في إحدى المناطق الواقعة جنوبي مدينة أربيل قبل نحو عامين، بعد أن لمحها وهي تتبادل الإشارات مع أحد أبناء الجيران من فوق سطح المنزل. الأب الذي "هشم" رأس ابنته بقطعة كبيرة من الحجر، لم يتردد في تسليم نفسه للشرطة على أساس أن القضية "قضية شرف".

أحد المحققين العدليين يقدم فرضية تناقض ما ذهبت إليه قادر، فالكثير من حالات الانتحار حرقا كما يرى المحقق كانت في حقيقتها "عمليات قتل متعلقة بقضايا الشرف" يعمد فيها الجناة إلى إخفاء معالم الجريمة بحرق جثة الضحية والادعاء بأنها أحرقت نفسها بنفسها.

المحقق يقول إن لجوء العائلة إلى هذه الطريقة سببه سهولة تشديد الأحكام خلال السنوات القليلة الماضية في ما يتعلق بقضايا غسل العار، فضلا عن إمكانية تمرير قصص الانتحار حرقا على السلطات المختصة لتجنب الوقوع تحت طائلة القانون.

في حالات وثقها الباحث سليمان طه، كانت الفتاة المتورطة بقضايا الشرف تجبر من قبل العائلة على حرق بنفسها، كما في حالة الفتاة سهاد التي ارتبطت بعلاقة غير شرعية مع ابن الجيران نتج عنها حالة حمل، فخيرتها والدتها بين إبلاغ إخوتها ليغسلوا عارهم بأيديهم، أو أن تنفذ سهاد العملية بيدها هي.

أحرقت سهاد نفسها داخل حمام المنزل، تنفيذا لرغبة والدتها التي سلمتها قنينة النفط الأبيض وعلبة الكبريت بنفسها قبل أن تغادر في زيارة سريعة لمنزل الجيران.