بغداد - مصر اليوم
تحدث المحلل النفسي فتحي بنسلامة والسوسيولوجي فارهاد خوسروخافار مع عدد من الفتيات صغيرات السن المنضمات إلى تنظيم "داعش" لكي يفهما مسيرتهن وأسباب انضمامهن للتنظيم المتطرف. وقد استنتجا أن تفضيل التشدد الأخلاقي، يخفي دوما شعوراً بالذنب فيما يتعلق بأجسادهن، وجنسويتهن، وحيواتهن. وتؤكد هؤلاء الشابات أيضاً أن خيار الزواج والأمومة، هو رد فعل على المثاليات النسوية.
رحلت قرابة 500 امرأة من بين 5000 جهادي أوروبي إلى سورية والعراق منذ عام 2015. وإذا كان تدفق الراحلين قلّ منذ عام 2016، فإن التزام هؤلاء الفتيات لم يجب بعد على تساؤلات المجتمع الفرنسي. كيف أصبحت حياة هؤلاء مقيدة بالعنف، وانتظار الموت، وجلّهن مراهقات؟ والمعضلة أنها حياة اخترنها بملء إرادتهن.
وفي كتابهما "النزعة الجهادية لدى النساء"، الذي صدر في الأسبوع الأول من شهر سبتمبر/أيلول عن مطبوعات (سوي) الفرنسية، قام خوسروخافار وبنسلامة بسبر أغوار هذه الظاهرة الغامضة، التي تشغل أوروبا وفرنسا بالذات. وعرضت مقاربتهما الطاقات المتعددة لهذا "التحول"، بعيداً عن الصور النمطية للضحايا من النساء التي تروج على الشبكات الاجتماعية.
هنا حوار مع المؤلفين بنسلامة وخوسروخافار، عن قضية الكتاب الإشكالية، لماذا تلجأ النساء المسلمات في الغرب، والرائج أنهن مستضعفات في الشرق، إلى الاندماج في مجتمع العنف والإرهاب، تحت عنوان "الجهاد"؟
* من هن النساء اللاتي اخترن الانضمام لداعش؟
- خوسروخافار: في فرنسا، غالبية هؤلاء النساء متحدرات من الطبقات الوسطى، على وجه الخصوص المهتديات حديثاً إلى الإسلام واللائي يشكلن 20% من المتشددات. على خلاف الشباب المتحدر أغلبهم من الأحياء "المعزولة عنصرياً"، والقليلون منهم من يقيم في قلب المدن. دوماً، تعيش هؤلاء الفتيات في مناطق متحضرة. وبالتالي، لا يشتغل الوضع السوسيو-اقتصادي بنفس الطريقة مع الرجال كما مع النساء.
الأمومة والموت
* ما الذي ينشط هذا الخيار؟ رحلت هؤلاء النساء إلى المدينة الإسلامية بحثاً عن زوج.
- بنسلامة: على خلاف الرجال، لم ترحل النساء للقتال - فقط أقلية منهن رغبته - وإنما كن متأثرات بالمثاليات والتي يمثل "الزوج المثالي" إحداها. لدى غالبيتهن، وجد الطموح في البداية ضالته في رؤية رومانسية عن الحب والاكتشاف، أو تحقيق أمنية امرأة تعبر عن نفسها بإرادة الزواج والحصول المبكر على طفل. وبينما تمتد فترة المراهقة في مجتمعاتنا، فإن "داعش" منحتهن فوراً مكانة المرأة الناضجة. بالنسبة لهن، الرجال الغربيون يمكن الثقة فيهم إلى حد ما، جديون إلى حد ما، والبطل، الفارس المستعد للموت الذي تراه مجسداً في الجهادي، يحظى بثقة أكبر. الرجل المثالي، الذكوري، المستعد للتضحية بذاته من أجل قضية هو مبتغى هؤلاء النساء.
* ترى أيضاً لدى هؤلاء النساء علاقة معقدة بالنسبة لنسويتهن، بالنسبة لجسدهن.
- بنسلامة: المثير للدهشة هو التشدد الأخلاقي الذي يخفي الشعور بالذنب المتعلق بجسدهن، جنسويتهن، حياتهن. العنف الذي من الممكن أن تمارسه يعود في البداية إلى ذاتهن. يعمل الدعاة على إقناعهن بأن جسدهن المغوي هو عدو الدين. ولذا يرين بأن عليهن معاقبة ذاتهن. يحتل الندم مساحة كبيرة. عدد كبير من هؤلاء النساء عشن عنفاً جنسياً، في وسط عائلي مفكك، يرافقه سوء معاملة الأهل. وهكذا يتبدى التحول الديني طوق نجاة من الانتحار، ويتحول إلى رغبة الاستشهاد الأخلاقي أو عبر التضحية بالإنابة عن الزوج الذي يموت في معركة.
المثال والقيمة
* كيف يمثل "داعش" بالنسبة لهن إجابة على هذه الجنسوية المضطربة؟
- بنسلامة: في إطار ضيّق، "داعش" يحصر المرأة في حالة من التقديس المتناقض المبني على الأمثلة والتقليل من القيمة. يرتكن إلى رفض الظرف الحديث للمرأة الغربية. تقول النساء بوضوح إن مثال المرأة المتحررة غير محتمل، البعض منهن يرى أن الحمل ثقيل للغاية ما بين العمل والأسرة. من الأفضل التوجه نحو حياة عائلية مقيّدة ومقننة. نعتقد، نحن، أن التحرر هو الحد الأقصى للحرية. ومع ذلك، بالنسبة لهن، فإن تحرر النساء هو عبء ومصدر للقلق. خيار الإجبار أصبح بالنسبة لهن تحررياً، والحجاب يندرج تحت هذا المنطق.
- خوسروخافار: تمضي هؤلاء الفتيات من المخالفة القصوى إلى التشدد الصارم، عبر التوكيد على القوالب الرادعة، والوعد بنسوية جديدة كاملة. في حوار، قالت لي إحداهن: "أفضل قبول تعدد الزوجات على رؤيتي لزوجي يخونني طوال الوقت مع نساء".
* دوماً، تتم الإشارة إلى غياب الأب في النزعة الجهادية لدى الشباب، أهذه نفس الحالة مع الشابات؟
- خوسروخافار: غياب الآباء يسم تاريخ جزء كبير من النساء والرجال المنضويين في النزعة الجهادية. ولكن العنف العائلي، أكثر من الغياب، هو العامل المتفاقم. حالة عائلة (محمد) مراح (1) التي يسيطر العنف عليها مثال دقيق. إزاء سوء معاملة الأب وأيضاً الأم، كان الرحيل بمثابة العلاج التنفيسي. بعد رحيلهم، لا يتوجه هؤلاء الشباب إلا نادراً بالكلام إلى آبائهم، صمت قاس لا يعني إلا أن الالتزام الجهادي يسمح باجتياز الأب.
البطلة والضحية
* أليس من الاختزال تحديد هذا الخيار بصدمات نفسية راجعة إلى الطفولة؟
- خوسروخافار: إذا عانى جزء منهن من العنف، فمن الصواب القول إن جميعهن لم يعان من صدمات نفسية. علاوة على ذلك، وبينما نجزم دوماً بأن هؤلاء النساء منخرطات فيما ذهبن إليه، لكن لهن دور في كونهن أصبحن من الضحايا. في خيار الزواج "على الطريقة الداعشية"، نلاحظ أخيراً رد فعل تجاه النسوية. تنزع النسوية إلى التفكير بأن على المرأة أن تحيا طفولتها لفترة طويلة. لكن هؤلاء النساء اكتفين بطفولتهن حتى سن الخامسة عشرة أو السادسة عشرة، ثم اتجهن نحو الطريق العكسية للمثالية الغربية. والرجل، الذي تختزل وظيفته في القتال، يحيا لخدمة أمومة من هذا النمط. وهذا ما يمكن تسميته "عزل الرجل الحقيقي باسم مثالية الذكورة والفحولة".
- بنسلامة: "مدينة داعش" مبنية على هذا الفصل: الموت للرجال، الأمومة للنساء. إذا بدأت النساء بالقتال، فهذا يعني أن جزءاً مهماً من الرجال يتلاشى. الرجال هم السادة لأنهم مستعدون للموت ولا يقبلون بتقاسم هذه الوظيفة.
* هل هناك بعد سياسي لدى هؤلاء النساء؟
- خوسروخافار: يوجد هذا البعد وإنما بصورة أقل عن الرجال. هناك قلب للرموز، أنثروبولوجياً، علاقات الذات إلى الذات وإلى الآخر، المركز في الرجل. والموت يصبح محك الشرعية. نحن بالضبط على نقيض الشعار الغربي "مارس الحب، وليس الحرب"، وفي هذا الصدد يتبدى الجهاديون كمناهضي ثورة مايو 68 (الشبابية في فرنسا). يقيمون الحرب ويؤكدون إرادة تحديد الجنسوية المطلقة للرجال. المجتمعات الأوروبية موسومة بإبطال نزعة تعظيم السياسي. ولذلك، فحينما نوجه السياسي إلى أفق مقدس، فإننا نعيد ابتكار العالم. بالتأكيد، هنا المخيلة عاجزة في الواقع. ولكن لا يهم. بالنسبة لهؤلاء الشابات، يتمثل السياسي في البحث عن حياة عائلية متماسكة.
* ما هي علاقة هؤلاء الشابات بالدين؟
- خوسروخافار: في كل مكان، هناك عدم تواصل مع المؤسسة الدينية، حتى في الإسلام. بينما التوجه الديني التقليدي مؤسس على توكيد الإيجابية، نجد هنا، أن المقولة التالية هي المنتصرة: "أرعبك، إذن أنا موجود". وما نطلق عليهن "البطلات السلبيات" يلجأن إلى العنف كتأكيد للذات. نلاحظ أن لدى الرجال كما لدى النساء هناك توجه ديني يتموضع على بعد تحريضي مؤسس وحقد.
- بنسلامة: قوة عطاء الجهادي ليست فقط ميزته الدينية، وإنما ردها على الطلب المتعدد الأشكال. الأفراد لا يمتلكون العيوب والمشاكل نفسها، وهذه القوة قادرة على الإجابة عن الكثير منها. وهي أيضاً المرآة التي تعكس القلق الاجتماعي، والسياسي، والثقافي، والاقتصادي في الغرب بالتأكيد، ولكن في إطار كارثي. هؤلاء النساء يحملن في دواخلهن أعراض مجتمعنا الواقع ضحية المتناقضات التي لا يمكن التغلب عليها بالنسبة للكثيرين.
* بعض محاولات إبطال (استيعاب) الراديكاليين مقنعة إلى حد ضعيف، ما رأيكما؟
- بنسلامة: تجربة مركز بونتورني في (إقليم) أندر-إيه-لوار (2) لم يحقق ما كان متوقعاً من قبل مبتكريه، الباحثين والميدانيين. مكتب رئيس الوزراء آنذاك مانويل فالس وجهه بعيداً عن هدفه لاعتبارات سياسية، وفرض مفهوم "التطوع" وسعى إلى تهيئة بلدة بونتورني بزعم استقبال "راديكاليين ناعمين"، على أساس أن التشخيص وظيفة الإدارة وليس المحترفين. لا راديكالي يصف نفسه كراديكالي و"متطوع" أيضاً لكي تنزع عنه "صفة الراديكالي". هذه القرارات أدت إلى وقوف المركز في طريق مسدود، ثم وبعد إنفاق الكثير من الأموال، قرر (مكتب فالس) وضع نهاية للتجربة، للتستر على الخطأ السياسي الكبير.
- خوسروخافار: من الضروري معرفة مستوى خطورة الأشخاص. هناك أكثر من مستوى. المحنكون مثلهم مثل الإسمنت. قابلت الكثيرين منهم في السجن. هؤلاء، من اللازم تحييدهم إنسانياً لأنهم يمثلون خطراً على المجتمع. هناك التائبون الذين يشكلون نسبة ضعيفة. وبينهما، المترددون الذي أتصور أننا نستطيع دفعهم إلى حضن مجتمعنا. هؤلاء، من اللازم مساعدتهم على تأمل ونقد تجربتهم ومسيرتهم، وهذا الشأن يستلزم الكثير من اليقظة وبالأخص مع متابعتهم على المدى الطويل. وأخيراً، المصابون بصدمة نفسية الذين شاركوا في عمليات عنيفة، وهؤلاء من اللازم معالجتهم في المصحات النفسية.
* لماذا لا تنبثق يوتوبيات أخرى، لا تأتي عبر الطريق الديني؟
- خوسروخافار: موجودة، بيد أنها غير مستغلة بعد. من وجهة نظري، النزعات الإنسانية، الإيكولوجيا أو النسوية من الممكن إعادة تفعيلها، وجعلها مثالية. كيف؟ لا بد من توافر ممثلين وممثلات جدد، وأن تعمل على استثمار هذه الظواهر الحقيقة. بالنسبة للوقت الراهن، الشعبوية هي التي تثير الانتباه.
مقاتلات ومخبرات
ظهر دور المرأة في إطار تنظيم "داعش" منذ بداياته المبكرة، في العراق، ومن ثم في سوريا، وتنكبت لدور "جهادي" عماده السلاح، والدعوى في أوساط النساء، وفرض الحدود عليهن، فضلاً عن وظيفتهن كزوجات وأمهات. ففي العام 2014، أبصرت "كتيبة الخنساء" النور، وكان دورها منع العمليات التي تستهدف مواقع "داعش" ويتولاها رجال يتسترون بنقاب النساء. هكذا راقبت النساء النساء. وقد كان معظم أفراد هذه الكتيبة من المهاجرات اللواتي لا يتقن العربية، ثم فتح المجال لاحقاً أمام العربيات بعد الخضوع لتدريب لياقة بدنية ومهارات قتالية.
تتولى النساء مراقبة النساء في الشارع، والحرص على خروجهن برفقة محرم، والتزامهن الغطاء الكامل، ثم تتوسع مهامهن لتطال تأمين زوجات لمقاتلي التنظيم واستقطاب فتيات أجنبيات وإغرائهن للانضمام إلى صفوف داعش، فضلاً عن إدارة سجون النساء والسبايا، والعمل كمخبرات في المجتمع المحلي، ورفع تقارير سرية.