لندن - كاتيا حداد
غطى الضباب الأصفر لندن لمدة أسبوع بكثافة شديدة في ديسمبر/كانون الأول عام 1873، حتى حال دون رؤية الناس لأقدامهم. وألقى مارك توين محاضرة عامة في ذلك الوقت قائلا: "سيداتي سادتي، أنا أسمعكم وأعلم أنكم حاضرون، وأنا هنا كذلك بصرف النظر عن أنكم لا تستطيعون رؤيتي!"
ويوضح مقطع عرض في نادي "سميثفيلد" موت نحو 780 شخصًا ونفوق 50 رأس ماشية بعد أن لهثت وواجهت صعوبة في التنفس ثم ماتت مختنقة. واستغرق الأمر أكثر من 83 سنة تعيشها لندن في هواء ضار بالصحة قبل أن تسنَّ قانون الهواء النظيف عام 1956.
ويصف كتاب "ضباب لندن: السيرة الذاتية" درسا عن الصعوبات التي واجهت الحكومات للحفاظ على صحة الشعب عندما يتعارض ذلك مع التطور الاقتصادي والقوة السياسية للصناعة وحتى العادات المسببة للتلوث. والآن تواجه حكومة الهند هذه الصعوبات حيث أن العاصمة نيودلهي مدينة مترامية الأطراف تضم 20 مليون نسمة واجهت فترة تلوث هوائي استثنائية وأغلقت المدارس لمدة ثلاثة أيام، وتعتبر الهند واحدة من البلاد متوسطة الدخل- ومنها الصين- التي تتصارع مع مشاكل التلوث التي تضخمت مع النمو الاقتصادي والتوسع السريع.
ومنذ عقد ماضٍ؛ أسيء فهم المشكلة لعدم اكتمال الأرقام بشأن مستويات تلوث الهواء والوفيات ولكن الآن تغير الأمر حيث أتاحت الأقمار الصناعية صورًا مفصلة للعلماء تمكنهم من إجراء عمليات حسابية أكثر دقة من أي وقت مضى. ويقول العالم الأميركي جوشوا آبت (أستاذ مساعد للهندسة البيئية في جامعة تكساس في أوستن): "لم يكترث العلماء بمقياس تلوث الهواء لأننا لم يكن لدينا فكرة عن الهواء الذي يتنفسه البشر حول العالم"، ولم يطمئن العلماء إلى ما رأوه لأن تلوث الهواء هو رابع سبب رئيسي للوفاة على مستوى العالم بعد الريجيم القاسي وارتفاع ضغط الدم والتدخين. ويفيد تقييم "عبء المرض العالمي" بأن حالة وفاة من بين عشر حالات سببها يتعلق بالتلوث، وجمع أكثر من 2000 باحث بيانات كثيرة من معهد القياسات الصحية والتقييم في جامعة واشنطن. وأفاد تقييم مجموعة منهم أن حوالي 6.5 مليون شخص يموتون بسبب تلوث الهواء الداخلي أو الخارجي في عام 2015 منهم مليونان من الهند. وارتفعت حصيلة وفيات التلوث بالهواء المحيط (الهواء الطلق) إلى 4.2 مليون عام 2015 في حين عام 1990 كان 3.5 مليون حالة وفاة. وسوف يزداد الأمر سوءا بدون تطبيق قوانين صارمة وبالتالي تتعرض حياة الكثيرين الى الخطر.
وصرحت د. ماريا نيرا مديرة الإدارة المعنية بالصحة العمومية والمحددات البيئية والاجتماعية للصحة في منظمة الصحة العالمية: "الأمر يزداد سوءا في البلاد متوسطة الدخل أكثر من أي وقت مضى"، وأضافت: "منذ خمسين عاما بلغ تعداد سكان القليل من المدن مليوني نسمة وقد تخطى تعداد سكان المدن حاليا أكثر من ذلك بكثير."
يذكر أن الصين والهند وروسيا تضم أكبر عدد من الوفيات الناجمة عن تلوث الهواء الطلق بحسب معهد القياسات الصحية والتقييم، ويرجع السبب في ذلك إلى أن تلك البلاد لديها أكبر عدد من الناس وتقع البلدان التي لديها أعلى معدلات وفيات - الوفيات الناجمة عن تلوث الهواء هي 100 ألف حالة وفاة من إجمالي عدد الوفيات- في أوروبا الشرقية: بلغاريا وأوكرانيا وبيلاروسيا وجورجيا ولاتفيا. وتختلف أسباب تلوث الهواء حيث يعتقد البعض أنه قد يكون له صلة بتراث صناعة السوفيت القذرة وسيارات الديزل القديمة التالفة.
وقالت كريستين ليندا كورتون مؤلفة كتاب "ضباب لندن": "يعتبر العنصر الرئيسي في سياسة التغيير هو الرغبة القوية في التغيير ذاته من جانب السكان"، وفي إنجلترا عام 1952 تصاعد الضباب الدخاني الثقيل وكانت هذه المرة من المواقد التي تعمل بالفحم والأفران وأدت إلى وفاة ما لا يقل عن 12 ألف شخص.
ودائما ما يبدو التلوث شيئا يثير الغضب ولكن اختلف الأمر في بريطانيا حيث قالت د. كورتون أن الضباب الدخاني الشهير في لندن سطر اسمها في التاريخ من قبل كتاب مثل ديكنز والرسامين الانطباعيين مثل مونيه وتيرنر وويسلر وجعلها رمزا للازدهار حيث يدل هذا التلوث في كتابات ديكنز على المواقد البدائية التي تعمل بقليل من كتل من الفحم وكذلك مصانع الغزل. كما أوضحت: "كان الضباب الدخاني عام 1952 صدمة حقيقية، ويتخطى الناس الكثير من الصعاب مثل الحرب أو الغارة ولكنهم يقولون أنهم لم يواجهوا هذا الفقد حتى الموت اختناقا من دخان الفحم. إنهم سئموا وأرادوا تحسين نوعية الحياة."
أما بالنسبة للهند؛ فقد قال البرفيسور آبت أنه يعتقد أن الرأي العام تغير وكان هناك اعتراف أكبر بكثير بكون التلوث مشكلة وأعرب عن أمله في الحصول على بيانات صحية شاملة من المستشفيات قد تحيل قضية التلوث إلى حقيقة وتخرجها من عالم الإحصاءات المجردة، وأضاف: "قد نصل إلى نقطة حرجة مع وجود الضباب الدخاني في دلهي"، كما قال أنه كان يعمل في دلهي على مدى السنوات الثماني الماضية وكان هناك هذا الأسبوع وأنه قام بعمل يبين أن الانخفاضات التدريجية في مستويات التلوث في الأماكن الملوثة للغاية لا تشير إلى تحسينات صحية كبيرة وهذه الظاهرة قد تجعل التغيير الصعب في البداية. ولكن هناك مكاسب جمة يمكن تحقيقها من مكافحة التلوث على المدى الطويل.