الدكتور محمد بدر الدين زايد

استضاف منتدى الأربعاء في مؤسسة الإمام الحكيم سفير جمهورية مصر العربية الدكتور محمد بدر الدين زايد في لقاء حواري تحت عنوان: "التطرف في البلاد العربية وسبل مواجهته" بحضور حشد من الشخصيات الدينية والسياسية والدبلوماسية والأكاديمية والإعلامية، قدّم اللقاء وأداره المحامي الأستاذ بلال الحسيني، حيث عرض شرحا وافيا لظاهرة التطرف، كما تعرض لإشكاليات انتشار هذه الظاهرة.
 
وتحدث بعدها الدكتور زايد الذي قدم في بداية كلمته تعريفا عن ظاهرة التطرف بأنواعه، وانعكاساته على بعض المراحل السياسية، أما ما هو معروف اليوم فيكاد يقتصر على نوع محدد من التطرف في المنطقة ألا وهو التطرف الديني، وتابع: التطرف موجود في العالم كله، وهو كل فكر يقصي الآخر.. فالفكر النازي كان فكرا متطرفا، وكذلك الفكر اليميني في الغرب والولايات المتحدة. لكن عندما نتحدث عن هذه الظاهرة، فهناك مفهوم يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار دائما ألا وهو مفهوم النسبية، حيث إن هذه الظاهرة هي ظاهرة نسبية تماما. فربما ننظر ـ الآن ـ إلى بعض التيارات السياسية على أنها ليست متطرفة، لكننا في مرحلة أخرى قد ننظر إليها بشكل مختلف.
 
وعن ظاهرة التطرف الديني؛ أشار الدكتور زايد إلى أنها ظاهرة تاريخية وليست بظاهرة جديدة، إذ تعرفها البشرية في اليهودية والمسيحية والإسلام عبر التاريخ الطويل، وأضاف: "ونحن في معرض الحديث عن الوضع الجاري الآن، فإن علينا أن ننطلق من نقطة تاريخية زمنية معنية، وهي النقطة التي حكمت التفاعلات السياسية في تاريخ مصر والمنطقة كلها، ألا وهي اللحظة التي نشأت فيها حركة الإخوان المسلمين. في بداية القرن العشرين، كان هناك تياران في مصر. تيار حداثي وتيار سلفي. وبعد الحركة التي أثارها رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني، كان الإمام محمد عبده هو الذي يمثل التيار الحداثي وفي مقابله شخصية لبنانية عاشت في مصر وهو الشيخ "رشيد رضا" ومنه انطلقت أفكار أخرى وحاولت أن تعيد بناء وصياغة تصورا للدين الإسلامي.
 
وأضاف "بدأت الدعوات تتحدث عن انتهاء الخلافة العثمانية، وأنه قد آن الأوان لأن يكون الملك فؤاد ـ وهو الملك الوحيد في العالم الإسلامي الذي كان يتمتع بقوة ووزن ـ هو الخليفة، وأن تنتقل دولة الخلافة إليه بعد خروجها من الدولة العثمانية. وفي هذه الأثناء، استبق "علي عبد الرازق" هذه المحاولات وأصدر كتابه الشهير "الإسلام وأصول الحكم" الذي أكد فيه أن الخلافة ليست من أصول الإسلام وأنه ليست هناك من حاجة لها. ومن ثم كانت هذه هي اللحظة المهمة التي بدت وكأن مصر تنتقل بالعالم الإسلامي إلى الحداثة وإلى مرحلة سياسية وفكرية مختلفة.

كان لا بد للقصر والإنكليز أن يجدوا من يتبنى فكراً مخالفاً، وهنا جاءت اللحظة التي أنشأت فيها حركة الأخوان المسلمين العام 1928. والذين يتحدثون عن أن هذه الحركة كانت معتدلة في بداياتها، وأن هناك من غيرها بسبب قمع الدولة، فهم لم يقرأوا بشكل جدي كتابات الأخوان المسلمين منذ بداياتهم وبالأخص كتابات حسن البنا نفسه وهو الذي أنشأ التنظيم الحيدي أو التنظيم السري للأخوان والذي كان يقوم بعملية الاغتيالات، وكان ذلك في بداية الأربعينات. وقد أدعى الإخوان المسلمون بما فيهم حسن البنا أنهم براء من هذه العمليات، إلا أنها مسألة غير حقيقية، فكل الشواهد والأدلة والمعلومات التي تم توثيقها تؤكد أن فكرة الاغتيالات وفكرة استخدام العنف والتحرك تدريجياً نحو بناء فكرة الخلافة، كانت عنصراً أساسياً من عناصر فكر وتوجهات هذه الحركة منذ لحظة نشوئها".
 
وتابع الدكتور زايد في الحديث عن البعد التاريخي لظهور هذه الظاهرة، فقال: خلال مرحلة التحرر الوطني والعربي وظهور المد القومي العربي، سارت الأمور باتجاه مخالف لما كان يريدون.. وكان هناك تشجيع غربي وتشجيع من قبل نظم ودول عربية عديدة لهذه التيارات لكي تواجه التيار القومي العربي، وقد حدث هذا في الخمسينات.. وبعد المواجهة الأولى للإخوان المسلمين مع النظام في مصر، خرجوا إلى عدة مقاصد خارجية في أوروبا والعالم العربي ومنها أعادوا تنظيم صفوفهم تحضيرا للعودة.. والكارثة الكبرى بتقديري قد بدأت تحديدا بعد العام 1967 وهو عندما ظن البعض أن أحد أسباب الهزيمة كان البعد عن الدين.. فاستخدمت هذه الحجة، حتى أن المشروع الحداثي الذي عرفته المنطقة ومصر ممثلاً بتجربة عبد الناصر؛ لم يتوقف عن التعامل وعن مهاجمة... فحتى التيار الفكري الذي رفض الأخوان المسلمين والذي كان قد أعلنه عبد الناصر في منتصف الستينات لم يكتمل، وأوقف هذه المواجهة واعتبر أن الهدف الرئيسي بالنسبة له ـ وهناك مبررات موضوعية لهذا الأمر ـ وهو التركيز على إزالة آثار العدوان واستعادة الأرض وإعادة بناء الجيش، وفي العام 1973 وعند مجيء الرئيس أنور السادات، فكر من وجهة نظره في محاولة منه لإعادة صياغة الأوضاع في مصر بأن يشجع تيارات الأخوان المسلمين، لكي يتخلص من اليسار المصري الذي اعتبره المهدد الرئيسي لنظام حكمه، فقدم تشجيع مادي ومعنوي حقيقي لهذه الجماعات لكي تواجه التيارات اليسارية في مصر.
 
وأفاد زايد بأن هذه الاستراتيجية الخطيرة تكررت في العالم العربي، فما يحدث في اليمن اليوم هو إعادة إنتاج لهذه الاستراتيجيا التي تثير الكثير من التساؤلات، والتي استخدمت عدة مرات في اليمن.. مرة باستخدام التطرف السُني وأخرى باستخدام التطرف الشيعي من أجل بقاء وسيطرة "علي عبد الله صالح"، والتي أصبحت اليمن الآن تعاني منها.. فكل من في اليمن يعلم بأن هذه الاستراتيجيا قد طبقها الرئيس علي عبد الله صالح في المرة الأولى لتشجيع الإصلاح والأخوان المسلمين للتخلص من الاشتراكيين والقوة اليسارية عموماً في الجنوب اليمني.. ثم بعد أن قويت هذه التيارات السياسية قام بتشجيع الحوثيين، وعندما شعر بالقلق من الحوثيين قام بتشجيع الإصلاح لكي يضربهم وأغرق اليمن في هذه الفتنة المستمرة لعدة عقود.
 
وتحدث عن الأسباب التي أدت إلى نشوء هذه الظواهر وتفسيرها، ولماذا أصبحت الآن في أقوى مراحلها وكيف أنها تشكل تهديداً حقيقياً لنمط الحياة، ولاستمرار العالم العربي؛ ومن هذه الأسباب: البيئة الحاضنة، الفقر وما شاكله، التشجيع الخارجي، الإخفاق السياسي، والذي يمكن تحديده في عمودين رئيسين؛ وهما: القضية الفلسطينية وبناء مجتمع ديمقراطي، الاحتقان المذهبي، الإشكالية الفكرية، والتي تعد الإشكالية الأكبر من حيث إشكالية التأويل والتفسر التي عشناها في تاريخ العالم الإسلامي منذ البداية وحتى يومنا هذا.

وأكمل أن هناك قراءتين مختلفتين لتاريخنا الإسلامي؛ واحدة ستقودنا بالضرورة إلى "داعش" وإلى كل أشكال التطرف، والأخرى التي تتحدث عن التسامح والاعتدال عندما تتحدث عن الرسول "ص" وهو يسأل عن جاره اليهودي أثناء مرضه.هاتين القراءتين هما اللتان حكمتا تاريخ وتراث العرب والمسلمين، فإما أن نسلك هذا المسلك أو ذاك، وليس هناك ثالث لهما، وعلى الرغم من أن لدينا ذخيرة كبيرة من تراثنا العربي الإسلامي تستطيع أن تقودنا إلى الحداثة وإلى العصر الحديث وإلى التقدم وإلى الديمقراطية وإلى بناء موضوعي ونموذجي لشكل الحياة التي نريدها؛ إلا أننا نضطرب دوما بسبب القراءة الأخرى التي تفسد حياتنا والتي سببت الكثير من كوارث التاريخ العربي الإسلامي.
 
وأردف قائلا: الحديث عن الإشكالية الفكرية لا ينفي أن إشكالية التشجيع الخارجي وإشكالية استخدام أطراف خارجية لهذه التيارات كانت موجودة طوال الوقت، سواء منذ بداية ظهور الأخوان المسلمين أو في ما بعد.. فهناك الكثير من الأدلة على ذلك، وحتى الآن لا زالت هناك أطراف غربية تقنعنا بأنها هي التي تعرف مصلحتنا جيداً لأن يكون هذا التيار أو ذاك حاكماً لنا.. وأن الديمقراطية هي أن نقبل بهم بأي ثمن، وإذا لم يحكمنا هذا الطرف فإنه سيعمل على القضاء علينا كما كنا مثال الرقي في مصر بعد 30 حزيران/ يوليو.. وهذه الأطراف الغربية تستخدم هذه اللغة منذ وقت طويل، وهي التي استخدمت فكرة الحلف الإسلامي لضرب فكرة القومية العربية ولم تفلح آنذاك وعادت بشكلٍ0 جديد. كما لا ننكر دور البيئة الحاضنة فيما يتعلق بالأساس الاجتماعي والاقتصادي، ودورها في تجنيد عناصر كثيرة ـ من السهل تضليلها ـ وانضمامها إلى الفكر المتطرف.. ولكن الحديث عن البيئة الحاضنة لا يجب أن يعمي أذهاننا عن أن هؤلاء المتطرفين يأتون أحياناً من بيئات متيسرة مادياً ومن دول غربية.. ومن ثم لا بد من التركيز على أن القضية الرئيسية والمتغير الرئيسي هو الإشكالية الفكرية.

وبيَّن الدكتور زايد أسباب انتشار ظاهرة التطرف في الآونة الأخيرة ومنها، تكنولوجيا المعلومات ووسائل الاتصالات والشبكات الدولية الموجودة في أيامنا هذه، والتي لم تكن موجودة في السابق، كما لم تكن متاحة للتجنيد والتأثير كما هو الحال اليوم، حالات الفراغ السياسي والاحتقان المذهبي التي حصلت بشكل خاص في المنطقة في أعقاب الثورات العربية، مفهوم الإسلام السياسي وهو المكوّن للحضارة العربية الإسلامية في نظر البعض من المسلمين والذي يندرج في إطاره حتى مسيحيوا مصر، العلاقة بين منظمات التطرف حيث نجد أن هناك نوع من التنسيق فيما بين الأخوان المسلمين وداعش والنصرة، والذين قد يتنافسون فيما بينهم على السلطة أو على توزيع الأدوار..

نحن إذاً أمام مجتمع وظواهر موقدة في العالم المعاصر والتي تجعل ظاهرة التطرف في ظل الحالة التي تشهدها المنطقة تبدو وكأنها ـ وهي كذلك ـ من أخطر التحديات التي تواجهنا في المراحل الراهنة.
 
أما عن الحلول لهذه الظاهرة، فرأى الدكتور زايد بأنها تنطلق من فهم المتغيرات والأسباب التي أدت لانتشار هذه الظاهرة.. واعتبر أن المواجهة الفكرية هي المدخل الرئيسي للحل كونها هي المتغير الرئيسي والذي يجب الانطلاق منه، وقال: علينا أن نحسم أمرنا كعرب ومسلمين في هذه القضية، إذ لا يجب أن يستمر مجتمع لأكثر من 150 العاماً في الدوران حول القضايا نفسها المتعلقة بالأصالة والمعاصرة والتي تثير الكثير من الإحباط، لقد آن الأوان لأن تتم مواجهة فكرية حقيقية وأن نتعامل مع هذه الظواهر بشكل جاد.. وأنا أتصور أنه ليس أمامنا سوى طريق واحد، فإما أن نغلّب الظلام ونترك القراءة أو أن نغلّب القراءة الحداثية الوسطية العقلانية، ودعوني أستخدم مصطلح العقلانية إن كانت مجتمعاتنا لا تزال عاجزة عن تقبل فكرية العلمانية.. وأعتقد أن هذه القراءة العقلانية التي لا زالت تُواجه برفض المنهج العلمي أو برفض تغليب العقل كأداة للتحليل أو لفهم الأمور، وبعد المواجهة الفكرية، يأتي الحل للقضايا الأخرى ومنها: مواجهة التحديات الخارجية، تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، اتخاذ بخطوات جادة لتخفيف الاحتقان السياسي، التحرك بشكل جاد باتجاه بناء مجتمعات ديمقراطية.
 
وختم بالقول: تقع على عاتق الجميع من المؤسسات الدينية والمفكرين والصحفيين والإعلاميين ورجال التربية والتعليم وسائر فئات المجتمع بل وحتى المواطن العادي؛ مسؤولية أن يقول "كفى"، لا يمكن أن نستمر في هذا التخلّف للأبد.. لأنه وفي حقيقة الأمر نحن ندور حول هذه الأشياء منذ أن أصر "رفاعة الطهطاوي" على قضية الأصالة والمعاصرة، وعندها بدأ بكشف ما نحن فيه من تخلُّف.. وقد آن الأوان اليوم لأن نواجه هذه المسألة بشكل جدي.