القاهرة ـ مصر اليوم
بعيداً عن صخب وضجيج العاصمة القاهرة، وفي أجواء مدينته الساحلية العريقة دمياط، يواصل القاص الروائي محسن يونس رحلته مع الكتابة، مضيفاً لها كل فترة حجراً جديداً، يؤكد خصوصيتها، ولغتها الثرية التي تستلهم روح التراث الشعبي، وعوالم القرية والبحر والصيادين.
بعيداً عن صخب وضجيج العاصمة القاهرة، وفي أجواء مدينته الساحلية العريقة دمياط، يواصل القاص الروائي محسن يونس رحلته مع الكتابة، مضيفاً لها كل فترة حجراً جديداً، يؤكد خصوصيتها، ولغتها الثرية التي تستلهم روح التراث الشعبي، وعوالم القرية والبحر والصيادين.
هنا حوار معه، عن هذه الرحلة، ومكابدات الكتابة عبر خمسين عاماً من العطاء.
> عنوان روايتك الجديدة «40 ألف كلمة» استوقف كثيرين لغرابته وعدم تقليديته، كيف جاءتك فكرته؟ وما مدى ارتباطه بمضمون العمل؟
- العنوان كما يعرف الكثيرون هو عتبة النص، وعلى القارئ أن يخطو من خلالها ليدخل ساحة الدراما والصراع، لذلك يكون دائماً موضع اهتمام الكُتاب، ومحل عناية خاصة فهو لا يلخص العمل، ولا يفضح ستره، وإنما هو مجرد وحدة، تنعم بحرية خاصة به. ومن ثم، لا أرى في عنوان «40 ألف كلمة» غرابة وعدم تقليدية، وهذا من وجهة نظري وصف ما ينبغي أن يكون عليه أي عنوان.
العنوان له صلة وثيقة بما تطرحه إحدى شخصيات الرواية من تساؤل عن السيرة الذاتية وما تحتاجه من كلمات في خضم أحداث العمل.
> هل يكشف هذا عن فلسفة ما لديك في اختيار عناوين نصوصك، كما في «سيرة جزيرة تدعى ديامو» و«حسن الاستماع وطيب المقام» وغيرهما. هل تستهدف جذب انتباه القارئ أم مجرد الخروج عن المألوف؟
- الاثنان معاً، هكذا ينبغي، من وجهة نظرنا، أن يعمل الكاتب انطلاقاً من المقولة الأمثولة: «الإبداع هو ما يأتي على غير مثال». الخروج على المألوف في الكتابة والإبداع عموماً هو ما يعطى الكتابة ماهيتها وجوهرها، فلسنا نكتب من خلال «روشتة» نتبع أوامرها، وإلا أصيبت نصوصنا بالمرض! الحرية للكاتب هي رئتاه وعقله وضميره معاً، تمنحه اللياقة والنشاط والقدرة على الابتكار.
> يلاحظ غزارة إنتاجك، خصوصاً في السنوات الأخيرة، ما السر في ذلك؟ وهل لديك طقوس معينة تصاحب عملية الكتابة؟
- ليس سراً ولا شيئاً من هذا القبيل، وربما شُبه للبعض ذلك، فبعض الأعمال نشرت بعد عدة سنوات من كتابتها، ربما ساعد على ظهورها مطبوعة أن مجال الطباعة والنشر قد اتسع وزاد الاهتمام به، وربما أيضاً اتسعت رقعة القراء وزاد عدد من يقتنون الكتب في السنوات الأخيرة، والمسألة برمتها لا قانون لها، ربما تمكث سنوات لا تكتب، ثم يأتي الفيض فتكتب بشكل متواصل، ثم يتبع هذا جفاف، الكتابة لدي حالة مزاجية، والأجواء التي تدفعني لفعل الكتابة بسيطة؛ أهمها أن أكون طيباً بلا مرض، ولا مشاكل حياتية، والعثور على نص شعري عظيم أقرأه بصوت عالٍ، أو مشاهدة فيلم جيد جداً، أو قراءة نص سردي مذهل، يجعلني أطير، وأتمشى يومياً على الشاطئ الثالث لنهر النيل الذي يشق مدينتي. عندئذ أنا في حالة كتابة، ولا أنتبه لكمّ ما أكتب لأرى هل لدي غزارة أم لا مطر في السماء!
> أطلقت على عمل لك «موجات قصصية» وعلى آخر «تعديدة روائية»، ما الفكرة وراء هذه التصنيفات والتسميات؟
- أزعم أن هذه التصنيفات غير بعيدة عن تكوين القارئ الفكري والجمالي، وما تربى عليه وشاهده أو استمع إليه في بيئته، فالموجات معروفة، وهي هنا مضافة إلى القصص، وعندما تذكر أمامك فتلقائياً يتوارد إلى ذهنك ومشاعرك فعل التواصل والاستمرار والتلاحق، أما عن «التعديدة» فهي المرثية الشعبية، وهي شكل شعري يتصل بالحزن على عزيز، والابتكار في التجربة هو استخدام هذا الشكل الشعري سرداً، وهي تجربة لم تتكرر في كتاباتي، ولكني أُجلها جداً، وأندهش من تلك اللحظة التي جاءت واستوت الفكرة والشكل معاً، أحاول هنا توضيح أمر مهم؛ ألا وهو على الكاتب أن يمارس عمله الكتابي برغبة وحب، بلا عنت أو غصب، يبقى أن أقول إن هذه التسميات والتصنيفات جزء أصيل من لحمة العمل.
> إلى أي حد شكلت نشأتك بقرية تطل على بحيرة المنزلة بعض ملامح تجربتك الإبداعية؟
- كتاباتي الأولى أحاطت بالبحيرة وناسها الذين هم أجدادي وآبائي وأعمامي وجيراني، رياحها وشمسها وأمواجها، ولكنها لم تكن حِلية بل كانت هي التجربة الإبداعية نفسها كما رصدها الكاتب والناقد الكبير الراحل إدوار الخراط، معتبراً تضاريس هذا الموقع ضمن «الحساسية الفنية الجديدة عند محسن يونس».
كنت مستغرقاً في بيئتي وأهلي بشكل كلي، عاطفة وعقلاً، حتى استوت قدرتي ليتسع العالم من حولي، وأكتشف أن عالم قريتي جزء لا يغني عن بقية أجزاء العالم، بل إن روح العالم يسبر غور الكل، في حين أن الجزء لا يعني الكل، من هذه اللحظة اتسعت رقعة الكتابة، وتشابكت مع عوالم أخرى، ولعل رواية «40 ألف كلمة» شاهدة على هذا الاتساع، حيث إن مكانها المدينة بناسها وشوارعها ومبانيها وقطارها وسياراتها.
> هل لهذا السبب وصفت نفسك بأنك «كاتب الصيادين»؟
- ربما... فقد كانت العادة في منتصف السبعينات وما قبلها من القرن العشرين أن يتمركز ويتمترس الكاتب في بيئة وناس محددين، انصياعاً لمقولات وصيحات أطلقها بعض الكتاب والنقاد بدعوى أن المحلية تصل بالكاتب إلى العالمية، ربما تكون هذه المقولة صحيحة في بعض جوانبها، إلا أن العالم الآن يحتضن قيم العولمة، مع ما فيها من أسباب تدعو للتخوف على الثقافات الخاصة.
إن فكرة الاندياح والانضواء في العام تخيف، ولكن في النهاية وطوال تاريخ البشر وهم يتغيرون ويتبدلون، ويسعون من أجل هذا التغير والتبدل في كل أنشطتهم التي يمارسونها في حياتهم، والكتابة أحد هذه الأنشطة التي تخضع لقانون التغير.
> قلت إنك تكتب من أجل أحفادك «لعل كتاباً لك يقع بيد أحدهم مستقبلاً فيصرخ مندهشاً: هذا جدي، كان كاتباً!»... ما مبررك للكتابة إذن لو لم تكن جداً؟
- هل يمكن لأي إنسان أن يتخذ قراراً لأن يكون كاتباً، وهو لا تاريخ له مع القراءة أو التأمل، أو معرفة أقل القليل من أبجدية الكتابة؟ أو انعدام ذلك الشعور الملح والدائم في أن تمسك بقلم وتجريه على صفحة ورقية بيضاء، لأنك تريد إفراغ امتلاء نفسك بعوالم تريد إشراك الآخرين في التعرف عليها، وانتظار وقع ما كتبته عليهم؟ إن عملية الكتابة ليست عملية بسيطة أو يحيط بها طبع ساذج، المقولة الخاصة بأحفادي - مع صحتها وتأكيدها - قيلت وأنا متحقق كتابياً وإبداعياً.
بدايتي مع الكتابة تختلف أغراضها عن الآن، وأكيد سوف تختلف إذا استمر العمر والعطاء، أكتب من أجل أحفادي قبل أن أكون جداً لهم، وبعد أن صرت جداً أيضاً، يساعدني في ذلك أن لي مساحة لا بأس بها من الكتابة الموجهة إلى الصغار.
> خمسون عاماً عشتها على ضفاف الكتابة والإبداع، كيف تقيم حصاد التجربة؟ ما الذي تحقق؟ وما الذي يثير الشجن؟
- لست نموذجاً وحيداً من الكتاب، أعرف أن رقعة الكتابة في بلادنا ضيقة، ولكنها تزدحم بكتاب كثيرين لدرجة لا تحصل الأكثرية منهم على الرعاية والاهتمام الواجبين، أعرف كل ذلك وفوقه هذا السعار من الكراهية والحسد والوقيعة والاستهانة وعدم الاحترام المتبادل، لا أحاول أن أكون يائساً قنوطاً، لأنني أتفهم جيدا الأسباب، وقد عاهدت نفسي على ألا أشارك في أي نميمة أو غيبة، ولأني أعيش مستوراً وليس ميسوراً، فقد دربت نفسي على أن في القليل الكثير، ولن أزيد كلمة في هذه السبيل التي يفتحها سؤالك على أهوال.
> تعيش زاهداً في أضواء العاصمة وصراعات المثقفين... كيف واتتك الشجاعة لتقاوم غواية القاهرة؟
- كل أمر في حياتي من اختياري، لم يفرض عليّ اختيار ما، وبطبيعتي أنفر من محاولة الاحتواء أو الانضواء في منظومة تجعل من أفرادها قالباً واحداً. في 1979، أتيحت لي الفرصة للعمل في القاهرة من قبل وزارة التربية والتعليم.
قابلت كثيراً من الكتاب واطمأنت نفسي إليهم، ومع ذلك غادرت القاهرة وعدت إلى موطني. كان يمكنني الاستمرار، كنت أقرأ كثيراً من الأعمال الأدبية، لكن حينما قرأت قصيدة «مدينة بلا قلب» لأحمد عبد المعطي حجازي، وبعض ما كتب عنها لم أتفهم جيداً سر الخوف من المدن الكبيرة، إلا حين عشت في القاهرة، وداهمتني تلك المشاعر من الرعب، وعدم الراحة، وأقلقني جداً الزحام والصخب، ثم ضياع أكثر وقتك في ركوب المواصلات للذهاب إلى مكان ما تود الذهاب إليه، الحياة في مدينتي تساعد في رياضة المشي.
حدث شيء لي وأنا في القاهرة هو اشتياقي لمشاهدة القمر وهو في السماء بدراً كاملاً، وكبرت رغبتي، كأنني في مدينة لا سماء فيها، كان القمر تخفيه العمارات العالية، أعرف القاهرة عامرة بالثقافة والفنون والكتب والمكتبات والمسارح والسينمات والصحافة والمجلات، لكني اخترت وعليّ أن أكون شجاعاً في تحمل نتائج اختياري، ببساطة ما الذي يلزم الكاتب الذي يبدع أدباً؟ هو إرسال ما يكتب إلى جهة النشر، الآن وأنت في مكانك عبر التكنولوجيا الحديثة بضغطة إصبع يمكنك أن ترسل نصك إلى أي مكان في العالم دون أن تغادر مكتبك.
قد يهمك أيضا:
التشكيلي المصري يوسف إبراهيم يؤكد أن التمسك بالهوية العربية يجعل الأعمال الفنية مميزة
الانتهاء من دراسة ملف مرجئين الباب السادس في المجلس الأعلى للآثار المصري