القاهرة - مصر اليوم
على غير العادة، لا تكتفي الفنانة التشكيلية المصرية سماء يحيى بتقديم معرض جديد بل معرضين معاً في «غاليري الأتيليه» وسط القاهرة، يحملان اسمين في غاية الدّلالة، الأول «حكاوي القهاوي» والثاني «بلد المحبوب» في حدث استثنائي يستمر حتى الثامن عشر من ديسمبر (كانون الأول) الحالي. تغوص الفنانة في مفردات الأحياء الشعبية المصرية، فتبرز جمال «بنت البلد»، تلك التيمة الحميمة المحببة إلى النفس التي سبق وأطلقها الفنان المصري الكبير محمود سعيد «1897- 1964»، في لوحته ذائعة الصيت «بنات بحري»، فتطل على جمهور المعارض تلك العيون الفاتنة باتساعها المذهل ورموشها الطويلة وجدائل شعرها المنساب كأنّها على موعد مع الليل والغموض والمجهول. لا تبدو النسوة هنا مجرد تجليات أنثوية مفعمة بالحرارة فقط، بل تحمل عيونهن كذلك قلقاً من الآتي وأملاً في مستقبل ومحاولة لا تنتهى للتأقلم مع مجتمع ذكوري قد لا يكون عادلاً بما يكفي أو متسامحاً كما ينبغي.
وفي أعمالها النحتية والمركبة الأخرى، تقلّب سماء يحيى صفحات كتاب النوستالجيا وتفتّش بعين العاشقة عن رموز وأجواء رسمت زمناً جميلاً مضى ولم يعد يتبقى سوى أن نشيّعه بنظرات الوداع والحنين. جهاز التلفزيون القادم من حقبة الثمانينات، الشيشة، ماكينة الخياطة المنزلية من نوعية سنجر، المقاعد الخشبية القديمة، كلها مفردات تعيد دمجها بعناصر أخرى من الخيوط والحبال والمعادن والوجوه النحاسية لتشكل في النهاية أعمالاً مركبة تتجاوز اللحظة العابرة وتشق طريقها لتسكن الوجدان وهي تستعيد تلك الدفقة الحارة من الذكريات.
تبرّر الفنانة تنظيمها معرضين في وقت واحد قائلة، إنّ «حكاوي القهاوي» و«بلد المحبوب» ليسا مجرد معرضين بل هما تجربة متكاملة، لذلك كان لا بد أن يقاما معاً بشكل منفصل ومتصل في الوقت ذاته، فكانت الحاجة لمكان يجمعهما معاً، ولكن في صالات منفصلة، مشيرة لـ«الشرق الأوسط» إلى أنّ هذا أحد أسباب اختيار «أتيليه القاهرة» لإقامة المَعرضين، حيث حالة الحميمية المحببة للغاليري بباحاته الفسيحة والجو التقليدي للعرض وكونه مكاناً متصلاً بتاريخ وأحوال زمان مضى، كذلك وقوعه في منطقة وسط البلد بمقاهيها التقليدية وبيوتها العتيقة والطابع المميز لأهلها، كل ذلك أوجد حالة متكاملة من الأصالة.
وعن الخيط الرفيع الذي يربط بين العملين، تشير إلى أنّ «بلد المحبوب» يمثل وطناً بأكمله وهو في حالة الاسترخاء بعد يوم عملٍ شاقٍ وطويلٍ فجاءت النساء بكل الرّقة والانتظار والرخاوة والهدوء، بينما جاء الرجال بكل الصّخب والضجيج والمرح في «حكاوي القهاوي»، موضحةً أنّ منحوتة المركب التي تحمل البنات تؤكد بوضوح أنّ المرأة هي التي تقود مركب الحياة من البداية للنهاية لتصل بالأسرة إلى برّ الأمان لأداء دورها الكامل.
وعن أعمالها التي يصعب على البعض تصنيفها ما بين نحت أو تركيب، توضح سماء يحيى: «إنّنا هنا بإزاء ما قد يسمى (النحت بالأدوات المصنعة والمواد سابقة التجهيز) وهو يختلف في فلسفته ورؤيته عن استعمال المخلفات وإن كان يتفق معه في زوال الغرض النفعي للخامة وتحويلها لشكل جمالي صِرف، لكن لكلّ أداة مستخدمة شخصيتها وروحها في العمل الفني»، مشدّدة على أنّ «هذا الفن يعدّ شكلاً من أشكال النّحت عرفته أوروبا في عام 1913 قبل الحرب العالمية الأولى، وأولع به العديد من الفنانين العالميين مثل بيكاسو وروشنبرغ ولويس نيفلسون». وفي الكلمة النقدية المرافقة لكتالوغ المَعرضين، يؤكّد الشاًعر والناًقد جمال القّصاص، أنّنا هنا بإزاء أعمال تستقي عناصرها وخاماتها من نبعها القُح، فلا مقاعد وثيرة أو بلاستيكية، مما تعج به المقاهي و«الكافيهات» اليوم، كما حرصت الفنان على أن تدير لعبتها في هذه الأعمال بمنطق الحكاية الشّعبية كما يرويها عازف الربابة، الذي كثيراً ما اعتُبر المغني الجوال لرواد المقاهي الشّعبية البسطاء، يروي حكاياته بعين حكّاء، تاركاً دلالة ما يحكيه من فصول البطولة وحكمة الأقدار ولواعج الأسى والعشق، قصصاً معلقة في المخيلة تبحث عن فراغ يحتويها، أو على الأقل يبقى وميضها حياً في الذاكرة.
ويتابع القصاص: «حرصت الفنانة على قنص الوجه وتنويع ملامحه بصرياً من زوايا متنوعة، معتمدة على الخط واللون كعنصرين تشكيليين أساسيين في بناء الصورة، فمن تراسلاتهما تشعّ اللمسات الأخرى كعناصر ثانوية مساعدة، مثل تدرجات الضوء والظّل، والموتيفات واللطشات ذات الزخم الزخرفي الموزعة برهافة في الخلفية وفي حنايا التكوين، لكن في المجمل يسهم الكل في بناء هيكلية خاصة للصورة». ويخلص القصاص إلى أنّ «سماء يحيي نجحت في أن تصنع حالة من الموازاة البصرية الرشيقة الحية بين التركيب كشكل فني له قوامه الخاص، وبين التجميع بإغراءاته العشوائية المنسابة في فجوات ودهاليز الأزمنة والأمكنة. وفي النهاية تضعنا أمام مناورات مع الفراغ بشكل إيجابي ومن منظور جمالي له رائحته الخاصة، رائحة بشر وحكايات حارة لن تجف بئرها».
قد يهمك ايضا