تونس _أزهار الجربوعي
اعتبر المخرج والإعلامي التونسي جمال الدّلالي في مقابلة مع "مصر اليوم" أن الثورة التونسية ولدت "بكماء ... ومبتورة اللسان" على اعتبار أنها لم تفلح في أن تنجب من رحمها إعلاما ناطقا بإسمها، مشدّدا على أن جزءا من
الإعلام التونسي "لا يُصلح ولا يَصلُح"، وحذّر مدير تلفزيون شبكة تونس الإخبارية (TNN) من خطورة الفوضى الإعلامية التي تعيشها البلاد على الثورة التونسية التي وصفها بـ"اليتيمة"، بعد أن خذلتها نُخبها وحكوماتها المتعاقبة، التي لم تكن في مستوى قيمة اللحظة التاريخية التي تعيشها البلاد.
وكشف جمال الدلاّلي أنه بصدد وضع اللمسات الأخيرة على فيلم وثائقي ضخم يحمل "عنوان سجينات في قبضة العقيد" يسلّط الضوء للمرة الأولى على اضطهاد النساء الليبييات ونضالهن من أجل الحرية والكرامة.
وبشأن اقتحامه لعالم الإعلام والإخراج الوثائقي، قال السينيمائي التونسي جمال الدلالي "إن الصدفة والقدر لعبا دوراً كبيراً في دخولي لمجال الإعلام الذي لم يكن مبرمجاً، وبدأ اهتمامي بكل ماهو عمل تلفزيوني أولا من خلال التدريب والممارسة، ومن ثم طورت هذا الاهتمام لاحقا من خلال تعمقي في دراسة السينما الوثائقية في بريطانيا في رسالة الماجستير.
وجمال الدلّالي هو أحد أبناء تونس الذين لم يُنسهم بطش النظام السابق ولم تشغلهم الهجرة نحو بريطانيا، إجباراً لا اختياراً، عن الاهتمام بقضايا وأوجاع أوطانهم، ونجح في تحويل محنة التهجير إلى منحة للإبداع ، وقد جعل من نضاله من أجل الانعتاق والراي الحر بوصلة لأعماله التي آثر فيها التركيز على المسكوت عنه من قضايا الحرية والأقليات والاغتيالات السياسية.. فكان أن أسهم في إثراء الرصيد الثقاقي التونسي والعالمي بباقة من الأعمال السينيمائية الوثائقية على غرار فلم "صالح بن يوسف.. جريمة دولة" الذي سلط الضوء للمرة الأولى على أول جريمة اغتيال سياسي في تاريخ تونس الحديث، طالت رمزاً من رموز الاستقلال والنضال الوطني التونسي صالح بن يوسف.
وقال جمال الدلالي لـ"العرب اليوم" اخترت الأفلام الوثائقية لأني أعجبت بهذا المجال، رغم أنه يتطلب وقتاً وجهداً كبيرين، كما أن اقتحامي لهذا الميدان ترجم رغبة دفينة في أعماقي، في فتح الباب أمام إعادة قراءة تاريخ تونس بطريقة موضوعية، خاصة وأن القراءات الموجودة والتي تتلمذ عليه جيل ما بعد الاستقلال (1956) كانت من من منظور واحد، وكان لدينا قناعة بأن فيها جزء كبير من الصواب وما يعادله من الخطأ، خاصة وأن تاريخ البلاد قد اُختزل في شخص الرئيس السابق الحبيب بورقيبة الذي احتكر رمزيات الاستقلال والنضال والوطنية، ورغم أننا لا ننكر ولا نقصي دوره لكننا متيقنون بأن تاريخ وأمجاد الدول لا تُبنى بيد واحدة".
واعتبر الدلالي أن هجرته القسرية منذ مرحلة الشباب المُبكّر نحو المملكة المتحدة البريطانية والتي أجبره عليها طغيان النظام التونسي السابق، قد فتحته له أبوابا وهيأت له آفاقا حُرم منها أبناء جيله، مشدّدا على ان أهم هذه الفرص على الإطلاق هي "قيمة الحرية" التي لم تكن متوفرة في تونس آنذاك، وهو ما أثرى رصيده المعرفي وجعله يراكم الخبرات ويكتسب التجارب الواحدة تلو الأخرى للوصول إلى هدفه المنشود خاصة وأن بريطانيا تعتبر مدرسة رائدة في ميدان الأفلام الوثائقية.
وردا على سؤال بشأن التحدي الذي يواجهه في نقد أعماله وإمكانية تأويلها انطلاقا من الخلفية الإسلامية التي يحملها وهو ما قد يعرضها لخطر فقدان قيمتها. الإبداعية، اعتبر السينمائي التونسي جمال الدلّالي بأنه لا بدّ لأي عمل إبداعي أن يحمل بصمة صاحبة ومنفّذه، مشدداً على أن التقييم الموضوعي لأي إنتاج فني يستدعي بالدرجة الأولى التجرّد من أي افكار مُسبقة وتفادي التأويلات والحكم على العمل بعد صدوره ومشاهدته، موضوعياً لا انطباعياً.
وكشف جمال الدلّالي أنه بصدد الانتهاء من عمل وثائقي ضخم يحمل عنوان "سجينات في قبضة العقيد" يتناول جانباً من حياة العقيد الليبي الراحل معمّر القذافي، مُرجحا أن يكون الفلم ،الذي ستنتجه قناة الجزيرة الوثائقية، جاهزاً خلال شهر شباط/فبرايرالمقبل.
وعن فكرة الفيلم تحدث مخرجه قائلاً "لقد حاولنا تسليط الضوء على تجارب سجينات ليبيات تعرضن لشتى أنواع التنكيل في عهد معمر القذافي، من تعذيب وقتل أزواجهن، محاولين طرق تاريخ النظام الليبي السابق من زاوية المرأة الليبية التي هُضم حقها رغم أنها ساهمت في الثورة جنباً إلى جنب مع الرجل، معتبراً أن الفيلم يحمل شهادات حيّة تكشف وجها أخر من دموية النظام الليبي السابق التي طالت نساء ليبيا المناضلات القويات، كما رجالها.
وأوضح الدلّالي أنه يسعى جاهداً للمحافظة على الخيط الرفيع الفاصل بين تحميل أعماله بصمته ورؤيته الفكرية وبين السقوط في فخ التوظيف والاسقاطات الإيديولوجية، محاولا أن يختصر بوصلته في قيم الموضوعية والمهنية لاغير، كما أكد أن جُل الشخصيات السياسية التريخية التي تناولها في أفلامه لم تكن تحمل خلفية إسلامية بل كان الرابط بينها أنها رموز وطنية ظلمها التاريخ وآن الأوان لإنصافها وتسليط الضوء عليها، على غرار الزعيم صالح بن يوسف، المصنف من رواد التيار القومي التقدمي التونسي والزعيم النقابي فرحات حشاد الذي يُجمع على نضاله ووطنيته يمين ويسار الشعب التونسي.
وقال المخرج جمال الدلألي "أعتز بخلفيتي الإسلامية التي ليست حكراً لي أو لغيري فالإسلام يجمع كل التونسيين وليس حكراً لطرف دون غيره وما يحكم أعمالي هي قناعاتي ومبادئي التي أسعى لترجمتها في قالب موضوعي ومهني".
واعتبر جمال الدلاّلي أن الأعمال الوثائقية ترتكز بالأساس على الوثيقة التي تحمل قراءات متعددة، وهوما يدفع بمخرج العمل إلى تعزيزها استناداً إلى الشهادات الحية والوقائع التاريخية واستدعاء المؤرخين، مؤكداً أن مهمة العمل الوثائقي ليس الأدلجة وتقديم أحكام جاهزة وإنما محاولة إثارة التساؤلات وطرح المسكوت عنه بحثاً عن الحقيقة بكل زواياها وفسح المجال للمشاهد ليكون الحكم والقارئ، كل من زاويته ومنطلقه.
وعن فيلمه الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية وتناول شخصية أحد زعماء الاسقلال والنضال الوطني في تونس صالح بن يوسف، ومحاذير سقوطه في الاستقطاب السياسي الذي تعيشه تونس بين من يتبنى الفكر البورقيبي الليبيرالي ومن يحمل لواء اليوسفية القومية، يقول المخرج جمال الدلّالي "البعض سقط في هذا الفخ وحاول أن يجعل من الفيلم قضية تصفية حسابات وعداء للرئيس الراحل الحبيب بورقيبة وقد جانب الصواب في ذلك، وما أحسب أنه أغراني لتناول شخصية صالح بن يوسف يكمن في الكم الهائل من المتناقضات والأسئلة التي حامت حول علاقة أكبر رمزين من رموز النضال الوطني في تونس(صالح بن يوسف والحبيب بورقيبة) الذين جمعهم الكفاح وفرقتهم السياسة والزعاماتية، كما أن سحق تاريخ صالح بن يوسف والقاؤه في خندق المجرمين والشياطين والمتمردين قد دفعني نحو تسليط الضوء على شخصيته التي وقعت فريسة أول عملية اغتيال سياسي في تاريخ تونس بعد استقلال 1956 وظل حقها مهضوما طيلة عقود".
وبشأن إمكانية خوضه غمار التجارب السنيمائية الروائية، أعرب جمال الدلالي عن رغبته في إقتحام عالم السينما الروائية، إلا أنه أكّد أن ما يستهويه في هذا المجال هي القصة المحبوكة التي تحكي تجارب من وحي الواقع وليس من الخيال، مشيراً إلى أنه بصدد التفكير في إنجاز فلم روائي عن شخصية "لزهر الشرايطي" (مناضل تونسي قاد الحراك الوطني للإستقلال عن المستعمر الفرنسي، أعدمه نظام الرئيس السابق الحبيب بورقيبة العام 1963، بتهمة التخطيط لانقلاب على السلطة)، من خلال تسليط الضوء على مفارقات وردهات حياة هذا الرجل الذي قيل أنه شارك في حرب 1948 ضد الكيان الصهيوني بالتوازي مع تناول الحقبة السياسية التي عاصرها.
وتعقيبا على بعض الدعوات بشأن امكانية تناول الاغتيالات السياسية التي تعيشها تونس في الفترة الراهنة التي أعقبت سقوط نظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، وصف السنيمائي التونسي جمال الدلالي تناول هذه الأحداث بـ"الخطير، لأننا مازلنا نعيش مرحلة التوظيف وردود الأفعال كما أن التحقيق في هذه الجرائم لم يقل كلمته الفصل، وخيوط الجريمة ماتزال غامصة، لذلك اعتبر الخوض في هذه الملفات، مجازفة كبيرة جداً، وربما نحتاج لسنوات أكثر للإحاطة بخيوط العملية".
واعتبر الدلالي الذي قضّى أغلب ردهات حياته في بريطانيا، هرباً من بطش النظام السابق الذي لاحق واضطهد كل من سوّلت له نفسه حمل لواء الحرية والكرامة، أن أغلب الأعمال السينمائية التونسية "مؤدلجة إلى حد النخاع، وتعاني من الإسقاط والتوظيف"، مشيراً إلى أن جزءاً كبيراً من هذا المشكل مرتبط بالتمويل الذي يكون فرنسيا في الغالب و يسعى لإسقاط قضايا نخبوية وثانوية على الواقع التونسي.
واعتبر الإعلامي التونسي جمال الدلالي أن المبدع "سياسي بطبعه" ولكن ليس بالضرورة أن يكون متحزبا ، مشيرا إلى أنه من واجب الفنان والمثقف طرح قضايا شعبه وعصره الاقتصادية والاجتماعية، وله أن يختار التحزب أو التعبير عن قضاياه من خلال أعماله الفنية.
وبالحديث عن المشهد الإعلامي التونسي الذي يُمثله المخرج التونسي جمال الدلالي من خلال إدارته لفضائية شبكة تونس الإخبارية (TNN)، اعتبر أن البوصلة التي تقود المؤسسة الإعلامية هي المهنية التي و"إن غابت فمن السهل استقطابها وشراؤها".
وأضاف الدلالي قائلاً "ما يرضينا أن كل الأطراف غير راضية عنا وهو ما يدل على أننا نقف على نفس المسافة من جميع الأطراف، مشيراً إلى قناة الـ"تي ان ان" قامت بتجربة فريدة من نوعها حينما كانت أول فضائية تطرح خطها التحريري للنقاش أمام من يوافقها ويخالفها الرأي خلال يوم دراسي، مؤكدا أن الخط الأحمر الذي لا يمكن التسامح معه هو أن يتعمّد البعض جعل القناة منبرا للترويج لقناعاتهم الحزبية الخاصة مهما كان انتماؤها وتوجهها.
وعن تقدم إنجاز عمله الوثائقي الذي يتناول الإعلام التونسي على مدار 50 عاماً منذ الاستقلال إلى ثورة 14 كانون الثاني/يناير 2011، قال المخرج الدلالي "الفيلم من إنتاج قناة الجزيرة الوثائقية، يعمل على رصد علاقة الاعلام بالسلطة، ويحتوي على جانب توثيقي يركز على توظيف نظامي الرئيسين السابقين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي للإعلام.
وأكد الدلالي أنه لا وجود إعلام محايد لا لون له ولا رائحة، وفق قوله، إلا أنه أكد أن الضامن الرئيسي للموضوعية يكمن في إعطاء الفرصة كاملة للرأي الآخر، ضمانا للتوفيق في إبلاغ حد أدنى من رسالة إعلامية نزيهة وموضوعية بعيدة عن التحريض والتوظيف.
وانتقد مدير فضائية شبكة تونس الإخبارية ، المخرج جمال الدلالي، المشهد السمعي البصري في تونس، معتبراً أنه يتخبّط وسط شبكة من فوضى مضمونية وشكلية تستدعي عملية جراحية لاستئصال أورام التحريض والتوظيف الرخيص للإعلام.
واستعار جمال الدلالي عبارة الرئيس التونسي الدكتور محمد المنصف المرزوقي في وصفه لدكتاتورية نظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي، قائلاً، إن جزءا من الإعلام التونسي "لا يًصلح ولا يُصلح"، في حين يحتاجه شقه الأخر إلى إعادة رسم ضوابطه الداخلية وفقا لمعايير المهنية والموضوعية، معتبراً أن الثورة التونسية قد ولدت بكماء، مقطوعة اللسان، لأنها فشلت منذ قيامها في كانون الثاني/يناير 2011، في إيجاد إعلام مواكب لها سواء فيما يتعلق بالإعلام العمومي الذي ما إن نزع بزّة النظام السابق حتى وشّح نفسه بأخرى، أو الإعلام الخاص الذي استفاد من المنظومة السابقة ولا يُعوًّل عليه كثيرا على هذا الصعيد".
وحذر الدلّالي من خطورة الفوضى الإعلامية التي تعيشها البلاد على الثورة التونسية التي وصفها بـ"اليتيمة" التي خذلتها نخبتها وحكوماتها المتعاقبة، التي لم تكن في مستوى قيمة اللحظة التاريخية التي تعيشها البلاد لاتخاذ قرارات جريئة لتصحيح المسار ومحاسبة من تورط في منظومة الفساد السابقة عدلاً لا جزرا، داعياً الهيئة العليا للإعلام السمعي البصري إلى إعادة هيكلة القطاع ووضع أطر وضوابط قانونية جديدة والاضطلاع بدورها في تنقية المشهد الإعلامي من الشوائب، على غرار كشف مصادر التمويل المؤسسات الإعلامية ومراقبة مهنيتها ومدى التزامها بأخلاقيات العمل الإعلامي.
واعتبر مدير فضائية (تي ان ان) أن جزءا من الإعلام التونسي يروج للحقد، ويعمل على شيطنة الإسلاميين وتقديمهم في قالب نمطي من شأنه توليد الحقد ، مقابل غض الطرف عن قضايا أخرى لا تقل خطورة على غرار حادث الاعتداء على وزير الثقافة مهدي مبروك من قبل أحد الفنانين التونسيين، وهو ما قرأ فيه البعض نيلا من هيبة الدولة التونسية، مشدّدا على أن السوق التونسية لا تحتمل هذا الكم الهائل من الفوضى الإعلامية وأن الزمن كفيل بانضاج هذه التجارب وتصفية السّمين من الغثّ.