جامعة الملك سعود

بتاريخ الرابع عشر من شهر ربيع الثاني لعام 1377هـ أصدر الملك سعود بن عبدالعزيز -رحمه الله- مرسومًا ملكيًا هذا نصه: "بعونه تعالى نحن سعود بن عبدالعزيز ملك المملكة
العربية السعودية رغبةً في نشر المعارف وترقيتها في مملكتنا، وتوسيع الدراسة العلمية والأدبية وحبًا في مسايرة الأمم في العلوم والفنون، ومشاركتها في الكشف والاختراع وحرصاً على إحياء الحضارة الإسلامية والإبانة عن محاسنها ومفاخرها وطموحها في تربية النشء تربية صالحة تكفل لهم العقل السليم والخلق القويم، المادة الأولى: تنشأ في مملكتنا جامعة تسمى جامعة الملك سعود".. انتهى نص القرار الملكي.

وتأسست الجامعة من ذلك التاريخ وكان يومًا تاريخيًا كبيرًا مشهودًا بإنشاء أول جامعة في الجزيرة العربية عامةً وفي المملكة العربية السعودية خاصةً، وكان أول مدير
لهذه الجامعة العريقة هو العالم الأديب والفيلسوف الدكتور عبدالوهاب عزام، أحد أساطير الفكر والأدب والترجمة والدبلوماسية والإدارة، الذي وثقت فيه الدولة آنذاك واستدعته من موطنه ليتولى رئاسة هذه الجامعة، وكان من الأولى ووفاءً لهذا الرجل أن يطلق شارعاً من شوارع الجامعة باسمه أو أحد قاعاتها تخليداً لذكره، وفي هذه السطور نتعرف على هذه الشخصية الموسوعية الموهوبة.

ولد عبدالوهاب بن محمد بن حسن بن سالم عزام عام 1312هـ/1894م، يقول عنه المؤرخ د.محمد مهدي علّام: نشأ نشأة دينية وحفظ القرآن الكريم في صغره، ثم دخل الأزهر وبعدها
انتقل إلى مدرسة القضاء الشرعي وتخرّج منها عام 1920م وكان الأول على دفعته فاختير مدرساً فيها -من (كتاب المجمعيون في خمسين عاماً)-، وقد درس في مدرسة القضاء الشرعي التاريخ والجغرافيا والرياضيات وبعض القوانين، وكان شغوفاً ومغرماً بالعلم والمعرفة، قرأ الكثير من كتب الأدب والتاريخ والشعر والمعارف العامة فكان مثقفاً موسوعياً.

أقرأ أيضًا:

الاحتفال بتخريج الدفعة الأولى من طلاب اللغة الروسية في جامعة دمشق

ويقول عنه أيضاً د.علاّم في كتابه المذكور آنفاً أنه عَلَم من أعلام العربية والإسلام، وعالماً ضليعاً في اللغات الشرقية، ولعشقه للدرس كان يدرّس في مدرسة القضاء
الشرعي ويكمل دراسته في الجامعة المصرية القديمة، ونال شهادتها عام 1923م في الأدب والفلسفة –كما يذكر الشيخ عبدالرحمن آل الشيخ في ترجمته للدكتور عبدالوهاب عزام في كتاب (مشاهير علماء نجد وغيرهم)، فيما ترجم له العلامة خير الدين الزركلي في كتابه (الأعلام) المجلد الرابع.

خير رفيق

وكانت أول سفرة للدكتور عبدالوهاب عزام -رحمه الله- هي رحلته إلى لندن عاصمة بريطانيا يوم أن كانت تسيطر على أجزاء كبيرة من آسيا والشرق الأوسط، وكان الذهاب إلى لندن
للعمل بالسفارة المصرية حيث عُيّن إماماً للسفارة –كما يقول زميله في الدراسة بلندن د.محمد مهدي علام- ومستشاراً للشؤون الدينية –كما يقول العلامة خير الدين الزركلي والشيخ عبدالرحمن آل الشيخ في كتابيهما-، لكن الشاب الطموح الموهوب انتهز فرصة وجوده في لندن وهي فرصة قد لا تتكرر فدخل معهد اللغات الشرقية بجامعة لندن ونال منها درجة الماجستير عام 1927م وواصل طلب العلم فظفر بالدكتوراه عام 1932م من الجامعة المصرية بعدما عاد من لندن وعمل أستاذاً في كلية الآداب، ثم عُيّن أستاذاً ورئيساً لقسم اللغة العربية واللغات الشرقية ثم عميداً لكلية الآداب سنة 1945م.

وعُيّن د.عبدالوهاب عزام سفيراً في أكثر من دولة ممثلاً لدولته ووطنه مصر- يقول زميله د.محمد مهدي علّام في كتابه (المجمعيون في خمسين عاماً): وقد شغل مناصب سياسية
ودبلوماسية عدة أتاحت له التعرف على أحوال البلاد التي يعمل فيها وأتاحت له الفرصة كذلك للالتقاء بالشعراء والأدباء والعلماء ينقل إليهم أفكاره وآراءه في صراحة جمة وتواضع محبوب، فلقد كان سفيراً في باكستان وفي المملكة العربية السعودية، وقد رافق د.محمد مهدي علّام د.عبدالوهاب عزام في سفرة إلى باكستان لحضور مؤتمر في لاهور فقال عنه: «وقد كشفت هذه السفرة المباركة الممتعة عن أخلاق وسجايا وشمائل د.عبدالوهاب عزام، حيث كان خير رفيق في الطريق».وعن أخلاق د.عبدالوهاب عزام، يتحدث الأديب المؤرخ محمد رجب البيومي في موسوعته (النهضة الإسلامية في سير أعلامها) قائلاً: لقد كان عبدالوهاب عزام مكافحاً؛ أي مكافح
لم يتشدق بالثقافة والمنصب وأعلى الدرجات العلمية وأخصب المؤلفات الفكرية التي توّجت نضاله، ولكن خُلق الإسلام قد أكسبه تواضع الزاهدين وهدوء الباحثين، ولو شاء لضج وصخب ولأعانته ثقافته المتنوعة على أن يجهر بنبوغه فيعلن عن نفسه في تكبر واستعلاء، ولكن عزاماً قد درس
وتعلم لتكون دراسته الخصيبة المتعددة الأفنان تربية سلوكية تدعو إلى الخطة المثلى في دنيا الخلق كما كانت مشعة تمزق الحوالك في دنيا الظلمات.

كلمة الافتتاح

وكانت فكرة إسناد جامعة في الرياض العاصمة قد بدأت منذ عام 1373 حينما تولى الملك سعود -رحمه الله- الحكم بعد والده الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- لمّا صاحب ذلك
التاريخ النهضة التعليمية في جميع أنحاء المملكة، وقد صدر المرسوم الملكي كما ذكرت في المقدمة، وذلك بعد الاحتفال بهذه المناسبة، وقد ألقى أول مدير لهذه المؤسسة التعليمية د.عبدالوهاب عزام كلمة في حفل الافتتاح، وكان الملك سعود قد شرف مقر الجامعة وحضر الاحتفال عدد
من أصحاب السمو الملكي الأمراء وأصحاب الفضيلة من العلماء ورجال الدولة والأعيان، وقد كانت كلمة وزير المعارف آنذاك خادم الحرمين الشريفين الملك فهد -رحمه الله- هي الأولى والمتصدرة للحفل، ثم تلاها كلمة أمانة مدينة الرياض، وبعدها تحدث د.عبدالوهاب عزام -مدير الجامعة-
وهو الفصيح البليغ الأديب العالم باللغة العربية وفنونها، فلم تكن الكلمات والمفردات والجمل إلاّ أمامه، ينتقي ما يريد ويدع ما يشتهي، وقد نشرت جريدة الرياض كلمة له بتاريخ 10/12/1392هـ بعد وفاته بـ(14) عاماً في مناسبة عن الجامعة بعد مضي هذه المدة على انشائها.

تحدث د.عزام في كلمته عن العلم في الإسلام ومكانة العلماء وأنهم ورثة الأنبياء مستطرداً عن تاريخ العلم ومراحله في التاريخ الإسلامي، وكيف وصل إلينا من حيث العلوم
الشرعية والأدبية والتطبيقية، ثم قال رحمه الله: وهذه الجامعة تكميلاً للمساعي العلمية والعمرانية في هذه المملكة المباركة وقصداً إلى بلوغ الدرجة العالية في العلم والتعليم وإلى التوسع في كل علم وفن لنبلغ المستوى الذي يكافئ مكانتنا بين الأمم ويلائم تاريخنا.

وأضاف قائلاً: وكذلك أنشأت الجامعة لنهدي الناشئة إلى الصراط السوي وتحميها من التقليد والافتتان بما في الغرب من مذاهب ومقالات، وتميّز لها الحق من الباطل وتبيّن
الرشد من الغي؛ فنبلغ بها في العلوم أبعد غاية، ونأخذ لها أحسن ما بلغته الأمم في الفنون والصناعات، ثم تحفظ عليها دينها وأخلاقها ومروءتها وسائر ما هدى إليه الإسلام؛ من خلق كريم وعمل صالح وما ورثنا من العرب من عزة وكرامة وقوة ومروءة ونجدة وسخاء.

ثقافة وأدب

ومع أن عمر د.عبدالوهاب عزام -رحمه الله- قصير جداً في إدارة جامعة الملك سعود، إذ تولى الإدارة في عام 1377هـ من شهر ربيع الثاني الرابع عشر منه وتوفي في العام القادم
من شهر رجب عام 1378هـ، إذاً هي سنة وثلاثة أشهر تقريباً إلاّ أنها كانت معالم واضحة في جامعة الملك سعود بما أنه أحد مثقفي العالم العربي وأدبائها وعلمائها، فلقد حرص أن تكون لجامعة الملك سعود دور في دعم الحركة الثقافية والأدبية في المملكة، يقول الشيخ المؤرخ عبدالرحمن
آل الشيخ في ترجمته لعبدالوهاب عزام: ومنذ أنشأت جامعة الرياض –جامعة الملك سعود- فيما بعد جرى الدكتور على تنظيم موسم ثقافي عام يلقى فيه الأساتذة محاضرات ثقافية عامة، وكان هو نفسه -رحمه الله- لا يكتفي بحديث واحد في الموسم وإنما كان يتحدث مرتين أو ثلاثاً أو أكثر،
وقد حوى العدد الأول من مجلة جامعة الرياض «الملك سعود» أحاديث الموسم الثقافي الأول سنة 1377هـ، وطبع العدد الثاني من مجلة الجامعة متضمناً أحاديث الموسم الثقافي الثاني.

أكثر من لغة

وتعلم د.عبدالوهاب عزام -رحمه الله- عدة لغات وأجادها إجادة تامة وخصوصاً الفارسية، ومن تلك اللغات غير الفارسية الفرنسية والإنجليزية والتركية والأردية –كما يذكر
العلامة خير الدين الزركلي في ترجمته للدكتور عبدالوهاب عزام-، ويقول زميله د.محمد مهدي علام في كتابه (المجمعيون في خمسين عاماً) اشترك في ترجمة كتاب اتحاد المسلمين عن اللغة التركية، ثم أخذ إنتاجه يتدفق في العربية والفارسية والتركية، وينقل د.محمد مهدي علام كلمة
للدكتور طه حسين حينما توفى د.عبدالوهاب عزام قائلاً: وبفضل عبدالوهاب عزام استقر تدريس اللغة الفارسية في جامعة القاهرة، وانتقل منها إلى جامعات أخرى ومعاهد أخرى للتعليم، وبفضل عبدالوهاب أخذنا نعرف أدب الفرس ونعرف من آثارهم شيئاً غير قليل، وذكر د.علام بحوثه في
مجمع اللغة العربية بمصر، ومنها بحوثه في اللغات له بحث بعنوان: (الألفاظ الفارسية والتركيبة في اللغة العامية المصرية) ونشر في مجلة المجمع، وله بحث بعنوان: (الفارسية في كتاب سيبويه)، وكل هذه البحوث نشرت في مجلة المجمع، والدكتور عبدالوهاب غزير الإنتاج، فقد كتب
مقالات كثيرة منها ما جمعه في كتب ومنها الكثير لم يجمع.

عدة كُتب

وألّف د.عبدالوهاب عزام -رحمه الله- عدة كُتب وحقق بعضاً من المخطوطات، وترجم عن الأردية والفارسية، ومن كتبه: (ذكرى أبي الطيب بعد ألف عام)، وكتاب (الشوارد) وهو
كتاب لطيف جداً، وممتع، وله كتاب عن رحلاته بعنوان: (الرحلات الأولى) طبع عام 1950م؛ وضم رحلاته الأولى مع رحلاته الثانية وهي فصول تتضمن ما رآه في أسفاره في جزيرة العرب وبلاد أخرى وطبع عام 1951م، وكتاب (النفحات)، وفيه خاطرات ثلاث رمضانات في ثلاث سنوات، وبحكم أنه
كان سفيراً لمصر في باكستان ويتقن الفارسية كتب عن شعر محمد إقبال وترجم ديوانه بعنوان: (ديوان رسالة المشرق)، وألّف في الشعر العربي، وقد حقق موقع عكاظ وذهب إلى الطائف وطبق النصوص والشواهد الشعرية والنثرية على الميدان، وذلك عام 1950م.

وكما قلت فشخصية د.عبدالوهاب عزام موهوبة، وهذه شهادة أخرى يقولها د.زكي مبارك حيث يصفها بالدقة وتخلو من البريق، فهو لا يجذب إليه من السامعين غير طلاب المعاني من
الذين يعرفون من قبل أنه باحث على جانب عظيم من الدقة والعمق، وهذه الشهادة نقلها إلينا د.محمد رجب البيومي في موسوعته (النهضة الإسلامية) في ترجمة د.عبدالوهاب عزام التي أفاض فيها عن حياة عزام العلمية والأدبية.

وفاة د.عبدالوهاب

وقال الشيخ عبدالرحمن آل الشيخ في ترجمته للدكتور عبدالوهاب عزام: انصرف الدكتور عبدالوهاب في يوم الأحد من مجلس أخوانه وأحبابه الأساتذة إلى منزله الخاص بحي الملز
بالرياض أمام الجامعة، فصلى الظهر وتناول طعام الغداء وجلس حتى آذان العصر فصلى فرضيته ثم آوى إلى فراشه ليستريح فيه، وكان إلى جانبه أوراق قد خط فيها صحفاً بيده بعضها مسودة لمحاضرة كان موعد إلقائها يوم الأربعاء من شهر رجب عام 1378هـ وموضوعها الموازنة بين إقبال
والمتنبي، وفي بعض الأوراق التي تركها موضوع آخر عن مواد اللائحة الداخلية لجامعة الرياض -الملك سعود- رسم فيها أشياء عن اختصاص مدير الجامعة وعن الأساتذة والطلاب والموظفين الفنيين والإداريين، وقبل المغرب بساعة طلب من زوجته شراب أعشاب فأحضرته له ثم ذهبت لتصلي ورجعت
إليه وإذا به يعالج خروج روحه، حيث فاضت روحه في يوم الأحد العاشر من شهر رجب لعام 1378هـ، ونقل جثمانه إلى مصر وصلي عليه في مسجد عمر مكرم ودفن في حلوان، رحمه الله وجعل الجنة مثواه.

وقد يهمك أيضًا:

إصدار عملات ذهبية احتفالًا بمأوية "الجامعة الأمريكية" في القاهرة

الكلية التقنية للبنات تختتم برنامج "التثقيف التعليمي المهني"