القاهرة - مصر اليوم
بعيدا عن الجدل السياسي الذي تثيره مذكرات عمرو موسى الأمين العام الأسبق لجامعة الدول العربية فان هذه المذكرات التي صدر الجزء الأول منها بعنوان "كتابيه" تشكل من المنظور الثقافي إضافة هامة لأدب السيرة الذاتية.
وتأتي مذكرات هذا السياسي المصري فيما يتفق النقاد الثقافيون على ان الثقافة المصرية والعربية على وجه العموم بحاجة لمزيد من المذكرات والذكريات والسير الذاتية الموثقة والمعتمدة لافتين الى انه رغم أن هذا النوع من الكتابة يدخل بامتياز ضمن ما يمكن وصفه "بالبنية الأساسية البحثية" فانه شحيح بالفعل في مصر والعالم العربي.
وهذه المذكرات والذكريات والسير الذاتية لها أهمية حيوية للباحثين في مجالات متعددة ما بين التاريخ والاجتماع السياسي والثقافي والعلوم السياسية والدراسات الاستراتيجية ولغة الخطاب ويمكن أن تنطوي على خبرات تراكمية مفيدة على صعيد مواجهة تحديات الحاضر والمستقبل.
وكان حفل توقيع الجزء الأول من مذكرات السياسي المصري عمرو موسى منذ أسبوع واحد قد شهد حضورا كبيرا لشخصيات سياسية وثقافية مصرية مثل أحمد أبو الغيط الأمين العام للجامعة العربية ونبيل العربي الأمين العام السابق للجامعة ومصطفى الفقي ونبيل فهمي ومحمد كامل عمرو ومحمد العرابي ومنير فخري عبد النور وزاهي حواس وعزت العلايلي.
كما تجلى الحضور السياسي والثقافي العربي في شخصيات يتقدمها رئيس وزراء لبنان الأسبق فؤاد السنيورة ووزير الخارجية الفلسطيني السابق الدكتور نبيل شعث وسط اتفاق عام على أهمية الكتاب الجديد لعمرو موسى الذي خاض المعترك الدبلوماسي المصري والعربي وتوجت مسيرته الدبلوماسية الطويلة بتوليه منصب وزير الخارجية ثم الأمين العام لجامعة الدول العربية.
ولم يخف عمرو موسى إعجابه وتأثره بقامات ثقافية وابداعية مثل أمير الشعراء احمد شوقي وعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين والنوبلي المصري نجيب محفوظ ناهيك عن توفيق الحكيم وأم كلثوم والموسيقار محمد عبد الوهاب.
ويتناول الجزء الأول من "كتابيه" سنوات الصبا والشباب لعمرو موسى الذي ولد عام 1936 وصولا الى انخراطه في السلك الدبلوماسي المصري حتى شغل منصب وزير الخارجية الذي انتقل منه عام 2001 لمنصب الأمين العام لجامعة الدول العربية.
ويبدو وزير الخارجية المصري الأسبق معنيا بقضايا القوة الناعمة وتجلياتها في الثقافة والفن في وقت تجدد فيه الاهتمام بهذه القضايا في صروح ومنابر الثقافة المصرية مثل الصالون الثقافي لمكتبة الإسكندرية الذي ناقش مؤخرا سبل تعظيم القوة الناعمة المصرية.
واذ سعى رئيس الوزراء اللبناني الأسبق فؤاد السنيورة لانتهاز فرصة الحضور الثقافي والسياسي المتعدد الأطياف أثناء حفل توقيع الجزء الأول من هذه المذكرات للفت الأنظار للتحديات غير العادية التي تواجه الأمة العربية ودولها الوطنية منذ مطلع القرن الحادي والعشرين فقد لفت ايضا الى أن مذكرات عمرو موسى تنبه للانسدادات التي نالت من بنية الدولة الوطنية ووظائفها العامة وتفاقمت في نهاية العقد الأول من هذا القرن الجديد بقدر ما تؤكد على ضرورات التطلع للمستقبل.
وبمنظور وطني وقومي معا يؤكد عمرو موسى أهمية استنقاذ الدولة الوطنية في بلدان العرب ومواجهة شرور الارهاب والأفكار المتطرفة والظلامية مع صياغة علاقة جديدة وصحية بين دول العالم العربي ومتغيرات ومستجدات العصر.
كما تنطوي هذه المذكرات التي شغل صاحبها من قبل منصب الأمين العام للجامعة العربية وعرف كواليس السياسة العربية على أهمية واضحة للباحثين في تحديات العمل العربي المشترك وسبل تفعيل الاصطفاف بين أبناء الأمة الواحدة في بيئة اقليمية ودولية حافلة بالمتغيرات فيما بدا عمرو موسى مهتما بقضايا النهوض الثقافي العربي كمجال رحب يمكن لجامعة الدول العربية ان تسهم فيه بالكثير .
والنظرة الشاملة للجزء الأول من "كتابيه" تكشف عن ان عمرو موسى كان حريصا على تبني نظرة منصفة في سياق القضايا التي تناولها كما استخدم لغة ذات مفردات تتعفف عن التجريح الشخصي واهالة التراب حتى على من اختلف معهم في الرؤى.
وفيما استلهم عمرو موسى بذائقته اللغوية المميزة عنوان مذكراته "كتابيه" من آية قرآنية وردت فيها تلك الكلمة بسورة الحاقة فان الجزء الأول من المذكرات التي تصدر عن "دار الشروق" يأتي في 654 صفحة من القطع المتوسط ومن المزمع استكمال المذكرات ضمن "ثلاثية كتابيه" في جزءين آخرين.
ولئن تناول عمرو موسى في "كتابيه" جوانب متعددة للبنية المؤسسية لوزارة الخارجية من واقع مساراته الطويلة في هذه الوزارة وشغله منصب الوزير لنحو عقد كامل وحرصه على تطوير هذه البنية او ما يسميه "باعادة الهيكلة" فقد حوت أيضا الكثير من الخبرات بشأن التعامل مع القضية الفلسطينية التي حظت وتحظى بجهود مخلصة ومكثفة من الدبلوماسية المصرية التي تواصل ايضا دورها التاريخي والنبيل لدعم النظام الاقليمي العربي وتطويره.
كما تنطق سطور "كتابيه" باهتمام كبير بقضايا الهوية والانتماء والتعليم وسياسات التنمية واشكالية الزيادة السكانية غير المنضبطة فضلا عن هموم الأمن القومي العربي ويمكن لقاريء الكتاب أن يطالع تأملات عميقة لعمرو موسى عبر رحلته المديدة في العمل العام والاحتراف الدبلوماسي ويتوقف أمام علامات تاريخية مثل مؤتمر مدريد للسلام كما سيجد مفاهيم ومصطلحات دالة تعبر عن رؤيته في مجال السياسة الخارجية مثل "الدبلوماسية الاستباقية".
وبطابع الحال يتعرض عمرو موسى في كتابه لشخصيات شهيرة في الدبلوماسية المصرية مثل الراحل الدكتور أسامة الباز الذي كان مثقفا كبيرا وعرف بعلاقاته القوية والعميقة مع الجماعة الثقافية المصرية وله كتاب شهير بعنوان "مصر والقرن الحادي والعشرين" ومن المثير للأسف حقا أن هذا الدبلوماسي اللامع وصاحب الأدوار المتعددة والهامة والذي شكل "صوتا نادرا للحكمة" في حقبة دامت نحو ثلاثة عقود لم يكتب مذكراته خلافا لما فعله عمرو موسى
واذا كان السفير المصري المخضرم عبد الرؤوف الريدي قد تطرق في كتابه "رحلة العمر" لجوانب وخبايا في مطبخ السياسة الخارجية فان قاريء "كتابيه" سيجد الكثير من الجوانب والخبايا فيما تناول عمرو موسى أيضا شخصية الراحل الدكتور بطرس غالي الذي شغل منصب الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة.
ولا يخفي عمرو موسى اعجابه بالقدرات الدبلوماسية والثقافية الرفيعة المستوى للدكتور بطرس غالي الذي قضى في السادس عشر من شهر فبراير عام 2016 وتميز الى جانب ثقافته الرفيعة بخفة الظل وهي صفة يتمتع بها كذلك صاحب "كتابيه" الذي اعتمد في هذا الكتاب على الذاكرة الشخصية والوثائق معا.
وتتجلى خفة ظله في عديد من المواقف التي يتضمنها "كتابيه" وحديثه عن أول سيجار دخنه وأفضى به لحالة إغماء كما يتحدث بحميمية عن أيام الصبا في حي منيل الروضة القاهري وايامه مع جده في "محلة مرحوم" بمحافظة الغربية خاصة بعد ان توفي والده الذي كان مدرسا بكلية الآداب في جامعة القاهرة وبحثه الدؤوب عن أخ له فرنسي الجنسية واللقاء الأول المثير بينهما عام 1963 في باريس.
وإذا كان الدكتور بطرس قال ذات مرة في مقابلة صحفية :"ما زلت اشعر ان كتابتي بالعربية فيها بعض التركيب والايقاع الفرنسي كما ان كتابتي بالفرنسية فيها تأثير السجع العربي والجمل الطويلة" فان عمرو موسى الذي التحق بوزارة الخارجية عام 1958 صاحب تركيبات لغوية عربية مميزة وبعضها يتسم بالطرافة.
وخلافا لما يتصوره البعض عن حياة للدبلوماسي قد تفصله عن واقع السواد الأعظم من شعبه فان الأديب المصري الكبير يحيي حقي والذي انخرط في الحياة الدبلوماسية تحدث عن الأعوام التي أمضاها في السلك الدبلوماسي المصري خارج البلاد ليقول :"لم انقطع عن التفكير في بلادي وأهلها..كنت دائم الحنين إلى تلك الجموع الغفيرة من الغلابة والمساكين الذين يعيشون برزق يوم بيوم".
وتحمل الذاكرة الوطنية المصرية شعورا بالتقدير لوزراء خارجية ودبلوماسيين عظام قدموا خدمات جليلة لبلادهم وتطرق عمرو موسى في كتابه لبعضهم مثل الدكتور محمد صلاح الدين وزير الخارجية قبل ثورة 23 يوليو 1952 كما لمعت بعد هذه الثورة أسماء لدبلوماسيين مصريين عظام مثل الدكتور محمود فوزى والسيد محمود رياض والدكتور مراد غالب ، ناهيك عن الدكتور بطرس غالي الذي يجسد العلاقة بين الثقافة والدبلوماسية.
ولعل كتابات هنري كيسنجر (وزير الخارجية الأمريكي الأسبق) تكشف عن العلاقة الوثيقة بين الفلسفة والدبلوماسية وأهمية البناء والتكوين الثقافي للعاملين في مجال الدبلوماسية والسياسة الخارجية والأمن القومي فيما يتنامى توجه عملي لتوظيف الفلسفة في حل المشكلات المؤثرة على الإنسانية فضلا عن تشخيص وتوصيف الإشكاليات الجديدة في عالم اليوم مثل الحرب الباردة الجديدة حول العالم.
وفى دولة مثل الولايات المتحدة فان نجوم الدبلوماسية يشكلون احد مصادر الحكمة الثقافية للأمة فيما تبدى الصحافة اهتماما بالغا بهذه النوعية من الدبلوماسيين وتتابع أنشطتهم وأفكارهم ورؤاهم حتى بعد خروجهم من مناصبهم الرسمية كما هو الحال مع كيسنجر الذي يرى ان الدبلوماسية هي "فن السيطرة على القوة".
واذا كان بعض الدبلوماسيين العرب لهم كتب ومذكرات عن عملهم فى وزارات الخارجية فان هذا النوع من الكتابات المطروحة للجماهير العريضة مازال اقل من حيث الكم مقارنة بهذا السيل من الكتب التي تصدر فى الغرب بأقلام الدبلوماسيين ووزراء الخارجية.
ومن هنا يستحق كتاب عمرو موسى الترحيب لأنه يسد جانبا من النقص الواضح في المكتبة العربية في كتب السير الذاتية للدبلوماسيين ، كما يستحق المؤلف التحية لأنه تحدث بصدق وصراحة حتى عن جوانب في حياته مثل رسوبه في الصف الأول الثانوي وعدم حصوله في الثانوية العامة عام 1953على النسبة التي كانت معلنة رسميا للالتحاق بكلية الحقوق لولا انه ذهب لوكيل الكلية الشيخ محمد أبو زهرة الذي وافق على التحاقه بالدراسة في هذه الكلية بجامعة القاهرة بعد توبيخه بصورة تتسم بخفة الظل التي عرف بها هذا الأكاديمي والفقيه الحقوقي المصري.
فالكتاب الذي اختار له عمرو موسى العنوان الدال "كتابيه" لا يخلو من ثقافة الاعتراف التي ما زالت غائبة إلى حد كبير في الثقافة المصرية والعربية على وجه العموم بقدر ما يشكل إضافة ثقافية هامة في أدب السيرة الذاتية.
ولئن رأى البعض أن مهمة الدبلوماسي في أي موقع ان يكتشف طريقا بين الذاكرة وبين وقائع الحياة على الأرض بحثا عن شعاع ضوء فان عمرو موسى في "كتابيه" من الباحثين عن الضوء و الضياء على درب الرجاء وطريق الأمل المصري.