القاهرة - مصر اليوم
يوما ما قال عملاق القصة المصرية القصيرة يوسف إدريس إنه لا يحب لمن يحبهم أن يحترفوا الكتابة لأن الكاتب الحقيقي لا يعيش الحياة مثل بقية البشر! وواقع الحال أن هذه المقولة ما زالت حاضرة بقوة في عالم الكتابة وهموم الإبداع وعذابات المبدعين بين الشرق والغرب، فضلا عن أسئلة تطال جدوى الكتابة.
وها هي الشاعرة اللبنانية سوزان عليوان تطرح أسئلة قلقة حول جدوى الكتابة في ضوء تراجع القراءة، فتقول :"لمن يكتب الشعراء المعاصرون والأدباء والمفكرون وكتاب المقال والمدونون الشباب والمتحمسون لفضاءات مستحدثة مثل فيس بوك وتويتر؟ فعليا من الذي يقرأ لنا؟".
وتواصل سوزان عليوان (1974) طرح أسئلتها المتشائمة والمشككة في جدوى الكتابة لتقول: "أحقا نكتب لجميع الناس؟ وإن كان الأمر كما نأمل وندعي كيف والكثير من الناس يجهل الألف نفسها من أبجدية القراءة؟"!.
وترى عليوان التي تكتب قصيدة النثر كما أنها صاحبة إبداعات في الرسم، أن هناك مساحة شاسعة من العدم تمتد بين الواقع وسقف الكتابة الشاهق؛ "كبرج عاجي متعال في أغلب الأحيان"؛ فيما تعتبر صاحبة "عصفور المقهى" و"كائن اسمه الحب"، أن على الكتاب أو النخبة المثقفة التواصل الحقيقي مع الناس في واقعهم.
وصاحبة "كراكيب الكلام" و"بيت من سكر" لا تستثني نفسها مما تصفه بالوهم الجماعي المهول للكتاب، موضحة: "لطالما سحرتني جماليات اللغة ولكن لم يخطر لي أبدا أن أساهم في محو الأمية نفسها"، وكأنها بذلك تتفق دون قصد مع كتاب مصريين مثل الباحث نبيل عبد الفتاح الذي أشار غير مرة إلى "بروز بعض الفجوات بين المثقفين وقطاعات جماهيرية عريضة كنتاج لانتشار الأمية بمختلف أنماطها".
وإذا كان محمد سلماوي الذي شغل من قبل منصب رئيس اتحاد الكتاب في مصر، يبدو متحمسا "لتحويل المثقفين من منظرين قد لا يرتبطون ارتباطا مباشرا بالواقع إلى مشاركين في بحث المشكلات التي تواجه المجتمع وتقديم الأفكار لمعالجتها"، فقد ذهب المفكر العراقي الراحل هادي العلوي إلى أن "المثقف هو الذي يتميز بعمق الوعي المعرفي والاجتماعي"، بينما رأى المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد أن المثقف مدعو لمواجهة كل أنواع التنميط والجمود.
وفيما يعد الفيلسوف وعالم الاجتماع والمنظر الأدبي الفرنسي الراحل جان فرانسوا ليوتار أول من أدخل "مصطلح ما بعد الحداثة" في الأدب والفلسفة والعلوم الاجتماعية، فهو أيضا من تحدث عن "نهاية عصر مثقف السرديات الكبرى وتراجع الأيديولوجيات والأنساق الفكرية الهائلة".
ونهاية عصر مثقف السرديات الكبرى اقترن كما لاحظ نبيل عبد الفتاح بسقوط منظورات ورؤى ومفاهيم لم تعد صالحة لتفسير ما يحدث في هذا العالم.
ومع انكسار وتقوض بعض أدوات المثقف في تكوين رؤاه وإنتاج أفكاره والنقص في صلاحية العديد من النماذج والرؤى والمقاربات التي ينتجها بعض المثقفين لتفسير الواقع الكوني الهادر - على حد تعبير نبيل عبد الفتاح - ظهرت حالات من الانكفاء والتردد والحيرة والقلق لدى بعض المثقفين والكتاب.
وطالت حالة القلق لدى بعض الكتاب جدوى الكتابة ذاتها، بل إن بعضهم لم يتردد في إبداء الندم لأنه اختار أن يكون كاتبا، وها هو ريك جيكوسكى الكاتب والناقد والأكاديمي والذي تولى من قبل رئاسة لجنة تحكيم جوائز البوكر، يكاد يلعن اللحظة التي عرف فيها الكتابة!.
وفي سياق هذه الحالة العالمية .. يقول جيكوسكي: "لست على ثقة من التأثير الإيجابي للقراءة غير أنني متأكد أن الكتابة تخرج أسوأ ما في، مضيفا في طرح بصحيفة "الجارديان": "نعيش في بيئة أدبية غير مريحة وغالبا ما أشعر بالحاجة للتكيف مع متطلبات القراءة ودراسة الأدب الإبداعي، وهذا أمر مفهوم للكتاب والقراء الذين يسعون دوما للتمتع بما يحبونه.
وأردف ريك جيكوسكي قائلا: "إننا نشيد بتلك القوة التي نعزوها لمشروع القراءة والكتابة ونعتقد أن التعرض الهائل للأدب العظيم يتيح لنا قاعدة راسخة نشعر بفضلها أننا أكثر عمقا وأننا نفهم أكثر، كما أننا أفضل على وجه العموم، ولكن إذا كان ذلك مجرد افتراض فاسمحوا لي أن أتشكك فيه رغم أنني لا أمتلك دليلا جوهريا ودامغا يسمح لي بالطعن في صحة هذا الافتراض".
وتابع: "لم أجر مقابلات مع آلاف الروائيين والكتاب والنقاد بما يسمح لي بصياغة موضوعية لشكوكي ولكنني أعتمد على تجربتي الذاتية واختبار النفس كشخص غارق حتى أذنيه في حقل الأدب كأكاديمي وناقد وكاتب، فضلا عن أنني قرأت الكثير والكثير على مدى نصف قرن من الزمان".
ومضى جيكوسكى موضحا: "إنني هنا أتحدث بكل صراحة عن مكنون ذاتي ومشاعري ولا أنطلق إلا من أحكامي الخاصة ولي أن أقول إن كل مغنم يقترن بمغرم وإذا كان الانغماس في حقل الأدب ينطوي على فوائد، فإنه يتضمن أيضا الكثير من المغارم والخسائر مثل ذلك التشويش الشنيع على الأفكار، فضلا عن الذوات المتورمة والأدعياء المنتفخين بالفراغ الذين يلتقيهم المرء بالضرورة في هذا المجال".
ونوه جيكوسكي بأنه يقرأ لمتعة القراءة ذاتها ولأنه يشعر بالسعادة في صحبة الكتاب رغم ما ينطوي عليه ذلك من أنانية؛ لأن القراءة الحقة تعني العزلة الكاملة حتى عن أولئك الأعزاء الذين يشاركون المرء بيته وحياته، ومن ثم فالأمر لا يخلو من قدر من التهرب من المسؤوليات التي قد تكون أهم لهؤلاء الأعزاء من خلوة القراءة.
وإذا كانت القراءة رغم مسراتها تنطوي على مثل هذه المثالب حتى لا يمكن وصفها بأنها تشكل أساسا راسخا لبناء الشخصية، فإن جيكوسكي يبدو أكثر تشككا في مغانم الكتابة، منوها بأنه كتب في العقد الأخير بانتظام أكثر من أي وقت مضى، غير أنه أدرك كلما كتب أكثر كلما أصبح أسوأ لأنه بات أكثر تمحورا حول الذات وأكثر استغراقا داخل النفس وهياما بها وأقل حساسية لاحتياجات الآخرين ومتطلباتهم.
ولاحظ جيكوسكي أن القاص آلان هولينغورست، أشار إلى ظاهرة مماثلة في سياق حديثه عن أسباب عزلته وأكد أنه عجز عن التوفيق بين متطلبات القراءة والكتابة والاندماج في الحياة الاجتماعية كما يعرفها الإنسان الطبيعي.
أما ريك جيكوسكي، فلا يعيش في عزلة كاملة مثل آلان هولينغورست، وإنما مع أسرته، ومن هنا فهو يشعر بذنب أكبر لأنه يظلم هذه الأسرة بسبب هموم الكتابة ويقول إنه عندما يكتب يشعر بأنه محموم طوال النهار كما يسهر في هدأة الليل ويحرم بالتالي زوجته بيليندا من النوم وهو يهذي على الدرج ليقتنص فكرة أو فكرتين.
يواصل جيكوسكي حديثه عن هموم الكتابة والإمساك بالفكرة المراوغة، فيقول إنه يشعر أحيانا وكأن لوحة الكمبيوتر قد اختفت وبعد أن يكتب يتجه للفراش، فإذا به عاجز عن النوم وساخط على ما كتبه، فيحاول أن يهرب للقراءة حتى يواتيه النوم وفي اليوم التالي يستيقظ متعبا ومكدود الذهن.
وإذا كان جيكوسكي ليس بالروائي أو القاص، فهو يشفق على هذه الفئة من الكتاب .. معتبرا أن مهمتهم أصعب ومعاناتهم أكثر منه ككاتب وناقد وأكاديمي، حتى أنه يبدي دهشته إن كان لأحد المنتمين لهذه الفئة حياته الاجتماعية كبقية البشر العاديين، فيما يعترف بأنه يحسد أي مبدع قادر على "غلق صنبور الأفكار"، وقتما يريد.
المفاجأة في نهاية اعترافات جيكوسكي أنه عاجز عن التوقف عن القراءة والكتابة، فيما يقول إن اللحظة التي يرى فيها مقاله أو كتابه الجديد، يمكن أن تغسل كل همومه ومعاناته، لولا أنه يدخل في حوار مع الذات حول تعديلات يتصور أنها كانت ستجعل النص أفضل!.
ويتمنى ريك جيكوسكي أن ينفذ نصيحة أسداها له صديقه الناشر توم روزينثال: "انس كل ما كتبت بمجرد النشر وفكر في عمل جديد".. لكنه بكل الأسف ليس بمقدوره حتى الآن الالتزام بهذه النصيحة!.
أما الأديب الأمريكي وأحد أشهر كتاب الرعب في العالم ستيفن كينج، فقد تناول هموم الكتابة ضمن طرح بصحيفة "نيويورك تايمز" حول مسألة غزارة الإنتاج وهو الذي تجاوزت مبيعات رواياته الـ350 مليون نسخة.
وستيفن كينج صاحب العديد من الروايات ومن بينها "كاري" و"الصمود" و"منطقة الموت" و"البريق" و"برج الظلام"، لا يجادل في أن بعض الكتاب الذين هم أبعد ما يكونون عن غزارة الإنتاج قد تركوا بدورهم بصمات خالدة في الكتابة مثل الروائية الأمريكية دونا تارت التي لم تنشر سوى ثلاث روايات، ومواطنها جوناثان فرانزن الذي لم ينشر سوى خمس روايات، ومع ذلك فإنهما يصنفان ضمن أفضل الروائيين في الأدب الأمريكي.
غير أن "الفجوات المديدة" بين الكتب لمثل هؤلاء الكتاب الموهوبين تكاد تصيب أديب الرعب الأشهر والكاتب غزير الإنتاج ستيفن كينج بالجنون وهو الذي نشر أكثر من 55 رواية وكتب روايته "الرجل الذي يركض" في أسبوع واحد.. هذا مبدع يدرك أن "الحياة قصيرة"، كما أنه مهموم بفكرة إمكانية انطفاء الألق الإبداعي ومن ثم فعلى المبدع أن يترك أكبر قدر ممكن من إبداعاته لهذا العالم قبل الرحيل.. هذا كاتب مهموم بحلم الخلود ويحلم بأن يركض إبداعه للأبد في ذاكرة العالم لينتصر المبدع على الغياب وينمو حضوره حتى وهو راقد في صمت قبره.