عامل يقتل ابنة عمه

وسط كتلة من الظلام والهواء البارد امتد أمامه الشارع في قرية المشايعة خاليا من المارة، الساعة كانت تسرع إلى الثالثة صباحا، وفي مثل هذا الوقت يمارس الشتاء الصعيدي قسوته على كل الأحياء، حتى كلاب الطرق كان قد أسكتها برد طوبة القارس فهجعت مطمئنة إلى أن برودة الجو تلف سياجا حصينا حول البيوت حتى بدا وكأن البرد أقوى من أعتى اللصوص وكل طارقي الليل. لكن هذا الشاب الذي يدعى "علي"، تحدى الصقيع بخطوات ثابتة نحو مصير حدده للتو تحت فورة غضب، فكان ما في صدره من الغيظ يشعل النار بين ضلوعه، فلا يشعر بما حوله ولا يرى إلا خيالات، ما عزم على ارتكابه وهو يقبض بيمناه على سكين، بينما يسراه يهتز فيها جركن ملأه بالبنزين كي يشعل النار، وهو في كل خطوة يزداد إصرارا على ما قرر أن يفعله وهو يعرف تماما أن الحياة بعد ذلك اليوم غير الحياة قبلها.

كان كل ركن في الشارع يشهد على نهاية قصة حب، كانت هي الشيء الوحيد الذي يمكن أن يكون له قيمة في حياة الشاب على ذي الخامسة والعشرين من العمر، ففي الشارع يقبع بيت "نيرمين" تلك التي كانت منية القلب وشغفة الروح ونسمة النفس، لا تبرح صورتها خياله أبدا منذ دق قلبه بحبها وحتى جاءه النذير بنهاية قصة حبها له رغم كل هذا الحب الذي أحبها كما أحب معها القدر الذي جعل الطريق إليها يسيرا، فهي تنتمي إلى العائلة نفسها التي ينتمي إليها، حتى أنه أحب ذلك الدم الذي يجري في عروقه لأن مثله يجري في عروقها، فوالدها الراحل الذي تركها مع والدتها وشقيقتها هو ابن عم له وهي صلة لها حجتها في قرية صعيدية كالمشايعة، فمن لها غيره ومن يجرؤ سواه على الارتباط بها ولو حلما؟. "نرمين بت عمك يا علي.. والبت عندنا ابن عمها ياخدها من على الحصان"، ليس هذا مجرد مثل عامي يردده الناس في الجنوب، بل يبدو وكأنه قانون من قوانين الطبيعة، فمن حق ابن العم الزواج ببنت العم ولو اضطر أن يحارب من أجل هذا الحق من فوق حصان، وهكذا نشأ على أنها ليست مجرد حبيبة ملكت شغاف فؤاده فقط، بل هي ملك له وكأنه ورثها، فهذه عاداتنا وهذا هو "سلو بلدنا".

وفي غربته في القاهرة كان "علي" يعمل في محل عصير يقف على عصارة القصب ويحلم باللحظة التي يسمح له فيها صاحب العمل بالسفر في إجازة ليعود إلى نرمين ليجدها عروسا تنتظر. حقا كان مدركا تماما أنه فقير.. ولكن متى كان الفقر مشكلة أمام الفقير الراضي بفقره؟!.. ثم إنه رغم ضيق ما بيده، أفضل من كثيرين في مثل عمره أو يزيد من أولئك الذين يستسلمون للعطالة مكتفين بأحلام لا يسعون لتحقيقها سوى بالثرثرة في حلقات السمر في ليالي القرية. ولكن مع زيارته الأخيرة خلال الأسبوع الماضي، لقيته نيرمين بوجه غير الذي عرفها به، حتى تمنى أن يصاب بالعمى حتى لا يرى الصد الذي لقيه منها وأن يبتلى بالصمم حتى لا يسمع كلمات "احنا خلاص فسخنا الخطوبة". أربع كلمات كأربع رصاصات اخترقت قلبه، ثم توالت الطعنات "هناك من طلب يدها وستتم خطبتها وزفافها قريبا". كان الموت أكثر رحمة من أن يتحمل كل هذا، ولكن مادام الموت هو الحل فلن يموت إلا بعد أن يثأر لنفسه من قاتلته، فقد صور له الوهم أن أم نيرمين هي التي حولتها عنه وتسببت في كل هذا الهول، فاتخذ قراره بالتخلص منها وها هو يسرع الخطى نحو منزل الأسرة بعد أن انتصف الليل بثلاث ساعات وهجم على البيت الذي لم يكن به غير الأم وابنتيها فقط، فاقتحم البيت ليفزع من فيه ولما هرعت إليه الأم تستطلع الأمر، عاجلها بطعنة من السكين، ثم توجه بعينين تشتعلان نارا إلى نرمين نفسها التي أقبلت صارخة مستغيثة محاولة أن تنقذ أمها، فاستجمع كل قواه وهو يغمض عينيه ويهوى عليها هي الأخرى، وأكمل فورة الجنون بأن قام بسكب جركن البنزين وأشعل النار ثم ترك المنزل وقد فارقت الأم الحياة بينما تقاوم نيرمين النيران رغم جرحها لتنبه شقيقتها التي لم يتمكن علي من الوصول إليها. وأيقظت صرخات الفتاتين الناس، فهرعوا ليطفئوا الحريق ويسرعوا بالفتاة وأمها إلى المستشفى في محاولة لإنقاذ حياتهما، إلا أن الأم فارقت الحياة، بينما كانت الفتاة تصارع الموت. وفور البلاغ الذي وصل بأحداث المأساة إلى اللواء جمال عبد الباري مساعد وزير الداخلية لقطاع الأمن العام، أمر بسرعة انتقال رجال مباحث مركز الغنايم التابعة له قرية المشايعة للتحقيق في ملابسات هذه الجريمة، ومع بزوغ النهار كان اللواء أشرف توفيق مساعد مدير الإدارة العامة للمباحث الجنائية بقطاع الأمن العام قد وصل بصحبة فريق من رجال المباحث قاده اللواء جمال شكر مساعد وزير الداخلية مدير أمن أسيوط، اللواء أسعد الذكير مدير مباحث أسيوط، والعميد مجدي سالم رئيس مباحث أسيوط، وضم النقيب إسلام فزاع مقلد معاون أول مباحث الغنايم والنقيبين محمود عاطف وفتحي طوسون معاوني مباحث المركز، حيث تم توقيف الشاب علي الذي لم يبد أي مقاومة، بل راح يحكي تفاصيل جريمته وقدم السكين الذي طعن بها الفتاة ووالدتها.وأمام النيابة قام بتمثيل جريمته بكل ثبات، لكنه في التحقيق الذي اعترف خلاله بقتل الأم وحرق المنزل، رفض أن يعترف بأنه كان ينوي قتل نرمين وأن السكين أصابتها وهي تدافع عن أمها التي عزم على قتلها انتقاما، ربما يعلم أن الجرائم التي اعترف بها كافية لأن ترسل به إلى غرفة الإعدام، لكن المتهم الماثل أمام النيابة يقرر في نهاية اعترافاته بأن حياته نفسها قد فقدت معناها وتحولت إلى جحيم تتصاغر بجانبه النار التي أشعلها بيده في بيت يحوي أحب مخلوقات الله إلى قلبه حتى لو تسببت طعنته في موتها!.