العريش - محمد السيناوي
القضاء العرفي هو الذي ينظم حياة البدو في شبه جزيرة سيناء وفي المحافظات التي توجد بها قبائل بدوية وهو منقول لا مكتوب يتوارثه الأبناء عن الآباء والأجداد.
وتشتهر قبائل عينها بالقضاء بين المتنازعين، في قضايا الدم لها محكمة وقاض خاص وقضايا الأرض كذلك، أما اصعب القضايا فهي المتعلقة بالمرأه ولها محكمة خاصة والأحكام فيها قاسية جدا وجائرة لمنع تكرارها وتسمي "المنشد".
ويرتكز القضاء العرفي في جوهره على تسعة قضاة أساسيين يطلق عليهم تسعة المنشد, وهم: ثلاثة ملام وثلاثة كبار وثلاثة مناشد, ويطلق البدو على القضاة أسماء منها: المخاطيط, أهل العلم, العارفة.
وإجراءات التقاضي لها شروط وترتيبات خاصة، والمحكمة نفسها لا تعقد في كل وقت، ففي رمضان مثلا لا تنظر القضايا وتؤجل لحرمه الشهر الكريم, كما لا يتم التقاضي في الأعياد والمناسبات الدينية، ولكن من الوارد أن يتم التقاضي بعدها بعدة أيام، فالحقوق التي تصدرها المحكمة العرفية ملزمة ولا يستطيع أحد التنصل منها، لأن القبيلة كلها تتكفل بها.
والمنشد هو المحكمة العرفية الأرفع لدى البدو, ففيها يتم التقاضي في كل ما يتعلق بالنساء ويعالج قضايا النساء قاض خاص يسمى عم البنات أو أباهن, واشتهر في سيناء القاضي المسعودي، وفي كل قبيلة ثلاثة كبار معروفين, فهم يستطيعون البث في كل المسائل وبإمكانهم حل أي خلاف, فهم كمحكمة الصلح والمحكمة الجزئية وقد يحيل الكبار بعض القضايا إلى أصحاب الاختصاص فهم الذين يحيلون إلى المنشد وأهل الرسان وأهل الديار وإلى البشعة.
وهناك قاض خاص يحيل للمنشد يطلق عليه الضريبي : وكان اسمه مشتق من المضاربة لأنه يفصل بين الطرفين المتنازعين في أحقية رفع القضية إلى قضاة تغريم أم لا, وكأن الطرفين يتراهنان وهو يفصل بينهما, وتحال إليه القضايا من عند الملام للبت في جوازها, فهو لا يغرم ولا يجرم بل يحيل بدوره إلى القضاة المختصين وعمله في ذلك يماثل الكبار, وتعتمده بعض القبائل اعتمادا رئيسيا مثل قبيلة السواركة والرميلات بينما تكتفي بعض القبائل بالكبار وقد يقضي الضريبي في القضايا العادية.، أي أن الضريبي هو الذي يفرز القضايا التي تعرك وتدرك ويحيل القضايا التي يرى أنها تستحق إلى الزيادي أو المنشد أو أهل الرسان أو الديار .
والمنشد نوعان: منشد إنشادة ومنشد قطع حق، والأول مأخوذ من كلمة نشد التي يستعملها البدو بمعنى سأل, فتحال إليه القضية من عند الملم من أجل مسألته هل يلحق صاحب هذه القضية منشد قطع الحق أم لا, ويدفع الطرفان عند هذا القاضي رزقة تبلغ تسعة إيل في بعض الأحيان وعلى وجه الدفة تبلغ عشر الطلابة.
أما منشد قطع الحق: فتحال إليه القضايا الواضحة برضى الطرفين أو من عند قاضي المنشد السابق, وقاضي المنشد هذا هو الذي يفرض الغرامة وقالوا عنه منشد "قرض وفر" أي هو الذي يقرض ويفرض وعلى الجاني أن يتحمل، والذي يدفع الرزقه عند منشد قطع الحق هو الجاني فقط ولا يحق له أن يدلي بحجة "مبلم ما يتكلم بمعني ليس له حق الدفاع عن النفس لجرم ما ارتكبه" وقالوا يدفع رزقه ويتأخر في الوراء ورزقة عله عليه وحجة ماله" وصاحب الحق يدلي بحجة قد تم الاتفاق عليها من عند القاضي المحيل لا ينبغي له الزيادة فهي مكفولة ومشهود عليها.
أما القضايا التي تستحق حق المنشد فهي قضايا العرض وما كل ما يتعلق بالمرأة سواء التحرش أو الإساءة في الحديث، وتشمل صايحة الضحى, أو قذف امرأة بالفحش , كذلك انتهاك حرمة البيت "وتحدد بالبيت وأطرافه التي تضم المسافة التي تصل إليها العصى حين رميها من البيت" وتقدر بأربعين خطوة, وقاضي المنشد غالبا ما يكون واحدا وحيدا إلا إذا استقل المجني عليه الحق, فيحق له طلب المنشد الثاني والثالث.
ومن أشهر قضايا المنشد حق صدر بشأن رجل اعتدى على امرأة في بيتها ضحى, فصاحت المرأة مستغيثة ونازعته, فقد ثوبها وبدد خرز قلادتها فهذه تسمى لدي البدو"صايحة الضحى" وكان حكم المنشد فيها: يترتب على الجاني دفع ناقة عن كل خطوة خطاها في اتجاه بيت المرأة من مقامه, وعشرة إبل عن دخول البيت, وتبتر يده التي لامست المرأة أو تفدى بالمال, وجمل أوضح , خادم تقود وعبد يسوق , يدهن هذا الجمل بالقطران, ويتجرد المعتدي من ثيابه و يعبط هذا الجمل فكل بقعة من جسم الجاني أثر فيها القطران تقطع أو تسلخ من جسده أو تفدى بالمال, وعليه إحضار بيت حديد يبيد الزمان وهو ما يبيد, وعبد طوله شبران ما يشرد من دبيب الخيل, وكل بند من البنود السابقة يوضح أمامه مبلغا من المال إما أن ينفذ أو يدفع بدلا عنه وأحيانا كثيرة يظل قاضي المنشد يعدد معاجز كثيرة فترى أحدهم يجثم عليه ويضع يده على فم القاضي كي يكف عن الزيادة.
وعلى الجاني أن يبيض البيت الذي دخله بقماش أبيض, ويرفع ثلاث رايات بيضاء في ثلاثة دواوين لقبائل مشهورة وفي كل ديوان يقول راية فلان بيضا ويذكر اسم والد المرأة واسمها مباشرة.
وهذه الأحكام التي تبدو جائرة قصد منها ردع كل من تسول له نفسه بالاعتداء على أعراض الناس, فهم يخشون ذلك خشيتهم من الوقوع في النار, لأن قاضي المنشد لا يرحم, وبعد حساب مقدار الحق يتدخل الناس نساء ورجالا وأطفالا ووجهاء لدى صاحب الحق كي يتنازل عن بعضه رأفة بالجاني , ولكن ما يتبقى يظل رادعا ومجهدا, حيث يبيع الرجل وخمسته "أولاد عمومته" كل ما يملكون من إبل وعقار وومتلكات كي يفوا بالتزاماتهم التي أصبحت في عرض الكفيل، هذا إذا رضي أهل المرأة بالقضاء, بل في العادة يغبرون على الجاني وخمسته ويعيثون فسادا وتقتيلا وعقرا وحرقا .
لذلك نادرًا ما نسمع في الأوساط البدوية عن قضية تحرش أو هتك عرض بسبب الأحكام الجائرة للمنشد، وعدم تنازل المحكوم لهم عن حقوقهم تأديبا للجاني ولعشيرته علي عدم تربيته وتوعيته بأعراف البدو.