الدكتور هاني جهشان
تعبير "بروباغندا" يعني نشر معلومات إعلامية، من قبل الحكومات أو الجمعات المسلحة، بكافة الوسائل المتاحة، بطريقة خادعة، غير موضوعية، منحازة، تحتوي على مجموعة من الرسائل تهدف التأثير عاطفيا على توجهات أكبر عدد ممكن من الجمهور، و تتصف عادة بكونها منقوصة كاذبة وغير عقلانية.
البروباغندا باستخدام أخبار موت الأطفال أو تعرضهم لإصابات أو أمراض بسبب الحروب، كأداة أو سلعة دعائية في المعركة بين الأطراف العسكرية المتنازعة، يندرج تحت اسواء اشكال انتهاكات حقوق الطفل، لدعوته للاستقطاب نحو طرف عسكري ضد طرف آخر باستغلال سلبي لعواطف الجماهير، ودون الإلتفات لمحور الخبر الرئيسي وهو الطفل الذي انتهك حقه بالحياة والصحة، وتتعدى هذه البروباغندا انتهاكها لحقوق الانسان لتكون امر لا أخلاقي يتصف بالحقارة ويدعو للنفور والعياف.
يستخدم مروجو البروباغندا "الخبر عن حدث" ما للتشهير وشيطنة الطرف الآخر في النزاع المسلح، أيا كان، ويتم ذلك بتأطير أو تجنب الواقع أو لي الحقيقة أو حتى اصطناع الخبر للوصول إلى هدف التجريح، ليبدو للعموم انه أصيل وموضوعي. يطلق تعبير "البروباغندا البيضاء" على التأثير النفسي للخبر عند تشويه حدثٌ رُصد من مصدر موثوق، وتعبير "البروباغندا الرمادية" على التأثير النفسي لخبر دون ذكر المصدر أو توثيقه، ويطلق تعبير "البروباغندا السوداء أو الشيطانية" على اصطناع خبر عن حدث وهمي لإحداث التأثير النفسي السلبي، وعادة ما يكون مصدره غامض أو غير حقيقي أو لا يذكر مصدر مطلقا، فقد يكون محتوى البروباغندا مجرد سردٌ لأكاذيب، او سردا لحقائق كان قد أشتغل عليها لتبدو بشكل يصدقه الجمهور، وقد تأخذ شكل سرد للحقائق من وجهة نظر واحدة دون عرض اية وجهة نظر مخالفة.
الوقع يشير الى ان هذه البروباغندا لا تزال مقبولة وتستخدم من قبل كافة الدول وفي كل القارات، وخاصة من الدول ذات القوات المسلحة الضخمة كالولايات المتحدة الأمريكية، ويتم ذلك بطرق التمويه والتعمية وبذكاء نسبي يحجب التشكيك بها، كما وأنها تستخدم أيضا من قبل الأنظمة الشمولية ومن قبل العصابات المسلحة، وفي بعض الأحيان تكون ساذجة يسهل كشفها.
البروباغندا استعدادا للدخول في النزاع المسلح:
في بداية النزاع المسلح يقوم اعلام البروباغندا بعرض الموضوع المحوري للنزاع واستعراض لغياب فرص الحل السلمي ومن ثم عرض فشل المفاوضات، ومن ثم يختار الاعلام الحربي رمز لصب اللائمة وسكب الغضب والكراهية عليه، وهو بالعادة وفي كل الحروب تجريح وشيطنة قائد العدو، وتتم الشيطنة بالتدريج من الهرم إلى القاعدة، والنتيجة الحتمية لذلك أن تقتنع جماعة بقتل الجماعة التي تم شيطنتها بسهولة ويسر ودون تأنيب للضمير، يتبع ذلك عرض الاعمال الوحشية للطرف الاخر، باستمرار وبالتكرار، ومنها الصحيح الواقعي، ومنها المحاك والمختلق والمصطنع والملفق.
البروباغندا خلال النزاع المسلح:
تستهدف البروباغندا الحربية عموم الجماهير وتقدم مادة اعلامية كطُعْم يستهدف كل من المثقفين والبسطاء لتضمن أكبر شريحة من الجماهير، وكلما كان محتوها بسيطا تكون احتمالات نجاحها أكبر، وهي تقوم بالمراوغة بعدة تدابير لتقنع الجماهير بغض النظر عن خلفياتهم ورأيهم حول النزاع المسلح ويتم ذلك كما يلي:
1. استخدام الألقاب والأسماء المقولبة كوسم للأشخاص أو المجموعات او الأنظمة، إن كان سلبيا أو إيجابيا، وإن كان بالتلطيف أو التلميح أو التعبير المباشر.
2. استخدام مقابلات مع أشخاص غير معروفة هويتهم أو مهنتهم أو غير مؤهلين وغير مطلعين على الواقع، لتلميع رموز وأشخاص محددة، أو لنقل معلومات مغلوطة أو إدلاء بشهادات غير حقيقية أو التصريح بادعاءات وهمية.
3. تستخدم البروباغندا العسكرية وسائل جذب متخصصة، كتقارير تاريخية، واستخدام الفولكلور والصور والرسوم الكرتونية.
4. على العموم تنجح البروباغندا العسكرية للأسباب التالية: (1) لوجود النزعة الطبيعية البيولوجية لدى الإنسان بتصديق كل ما هو أفضل له، ولتشكيلته الاجتماعية، وللبقعة الجغرافية التي يسكنها. (2) النزعة الطبيعية للخوف من المجهول وما يفترض من ممارسات الخساسة والاحتقار والازدراء من قبل الاعتداء، والخوف من الأَسر والسجن والقتل بظروف غياب العدالة. (3) البروباغندا تقدم إعلاميا للجماهير بطريقة تبدو حقيقية ومنطقية. (3) بسبب ضعف الاعلام المهني وغياب الحريات يؤديا لضعف التشكيك بالبروباغندا العسكرية ويساعدا على شيوع محتواها.
5. تنجح البروباغندا في الوصول للمثقفين للأسباب التالية (1) المثقفون يطالعوا وسائل الاعلام المختلفة بنسبة أعلى من غير المثقفين، مما يعرضهم لمدى واسع من المواد الإعلامية التي تبث على شكل بروباغندا. (2) المثقفون هم على الاغلب في وظائف عسكرية متقدمة أو وظائف إعلامية أو مهنية تجعلهم جزء من وسائل بث البروباغندا العسكرية. (3) أظهرت الدراسات ان مستوى تشكيك المثقفين بما يدور حولهم ينخفض تلقائيا في أوقات الحروب أو لدى العمل المباشر تحت إمرة القادة والحكام.
تأقلم الحكومات والجماعات المسلحة مع تطور وسائل الاعلام:
التطور الإعلامي من مرحلة المذياع والصحف إلى مرحلة البث التلفزيوني غير المباشر ومن ثم إلى مرحلة البث التلفزيوني المباشر من موقع الحدث، وشيوع نشر الاخبار في مواقع الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، شكل عائقا امام الحكومات والجماعات المسلحة من ان تستخدم البروباغندا بطرقها التقليدية مما أوجب عليهم العمل تحت ضغط الوقت، للتعامل مع معلومات خام غير مُشتغلّ عليها. هذا التطور الاعلامي الرقمي ادى الى اضمحلال إمكانية إزالة المعلومات التي قد تبدو ضارة، وعدم القدرة على تلميع الخبر وتجميله لصالح ناشره بصورة مغايرة، وتلاشي فرصة البحث عن مصادر لإظهاره بشكل منطقي مقبول يوصل رسالة محددة.
الفورية في انتشار الخبر في وسائل التواصل الاجتماعي والانترنت أدى لزيادة في الرغبة بتلقي الاخبار، ففي أحد الدراسات أظهرت ان رغبة الجماهير بالاطلاع المستمر على الاخبار ارتفع من 2% إلى 30% خلال العشر سنوات الماضية، مما دفع الحكومات والقوات المسلحة وأجهزة المخابرات لاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي ومواقع الانترنت لنقل الاخبار ومحاولة إيصالها برسائل موجهة، كما وانشأت الأجهزة الأمنية أقسام متخصصة بالإعلام الرقمي تعمل على الرصد والرقابة والتقييم والنشر الموجه.
تأقلم الحكومات والجماعات المسلحة مع وجود الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي كان بحزم ودهاء فتقوم بنشر تقارير في وقت ومكان محددان على أنها مواد إعلامية حديثة على الرغم من وجود الحدث لسنوات سابقة، على سبيل المثال وليس الحصر (عن انتهاكات لحقوق الانسان)، وعمدت الحكومات على التعاون مع الاعلام الرسمي او مؤسسات إعلامية قائمة على الدعم الحكومي، او معتمدة على فساد حكومي، على حجب تقارير إعلامية لها انعكاس سلبي على الواقع، كما اوجدت الحكومات وعن طريق شركات ومؤسسات مجتمع مدني، مبدئ إحتمال شيوع المحتوى المغلوط والتكرار بنشر اخبار او صور سابقة، بهدف التشكيك بأي معلومة لا تناسبها.
المعلومات المهنية الحيادية إعلاميا غير مقبولة على الاعم الاغلب من قبل الحكومات والقوات المنخرطة في النزاع المسلح، ويلازمها دوما اعلام البروباغندا إن كان في حقبة المذياع والصحف او في حقبة الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، ولا يتوقع من الاعلام المهني الحر او ناشطي مواقع التواصل الاجتماعي المستقلين الانجراف ليكونا جزء من البروباغندا، بل عليه أن يتدخل ويصحح المعلومات المغلوطة ويواجه التضخيم ويلتزم بالحياد.
إن انحياز الاعلام لجهة طرف في النزاع العسكري وتقبله ان يكون اداة في البروباغندا الحربية، هو سلوك غير مهني وغير أخلاقي، وهو التحاق حقيقي في الحرب الدائرة لجهة مقابل جهة أخرى، كما وأن استخدام اخبار وتقارير عن أطفال قتلوا او أصيبوا او تعرضوا لمرض بسبب الحرب بهدف اظهار وحشية أحد أطراف النزاع الحربي، أياً كان، هو انتهاك صارخ من قبل الاعلامين لحقوق الانسان إذا لم تتصف هذه المواد الاعلامية بالحياد، ويتوقع منها ان تشمل ما يلي: (1) نصوص واضحة عن حق الاطفال بالحياة والصحة والحرية والتعليم. (2) معلومات على التقصير في حمايتهم وعن سبب وجودهم في المناطق العسكرية أو حجزهم كدروع بشرية أو إعاقة نزوحهم لأماكن آمنة. (3) تقصير مؤسسات المجتمع المدني ومؤسسات الأمم المتحدة في حمايتهم. (4) توثيق هذه الجرائم بطريق مهنية اعلاميا تستخدم كدليل في المحاكم الجنائية الدولية.
المواثيق الدولية والشرائع السماوية تُثبت أن هؤلاء الأطفال بشر كما هم الاعلاميين والمقاتلين وقادة الجيوش وقادة العصابات المسلحة ورؤساء الحكومات بشر، وهم ليسوا أسلحة تستخدم بالحروب وصورهم ليست مقذوفات لتوجه لجهة معادية، أياً كانت.