بقلم : أحمد عبدالله
خدعوك فقالوا إننا نعيش أزمة على الصعيد السياسي، وأن الخلل والتخبط كامنين في أداء الحكومة وقرارات البرلمان وغياب الأحزاب، وإندفاع القوى الشبابية وسذاجة التيارات الأصولية، وإنتهازية الجماعات الإرهابية، ففي رأيي مانعانيه في أيامنا حاليا أوسع وأشمل بكثيرمن ذلك.
لانفتقد حاليا لمرونة في مسارات الحكم أو جودة في أداء سلطات الدولة فقط، وإنما نعاني –سواء شعرنا أو لا – من حالة تردي مفجعة لكل ماهو متعلق بالعلوم والفنون والآداب والموسيقى، وهي المجالات التي أصابها تراجع حاد وغياب واضح ومخز، وتسببت نتيجة لذلك في أضرار تفوق الإنسداد السياسي وغياب الرؤية الحكومية أو التخبط الإقتصادي.
قديما كانت مصر تعاني تحت وطأة الإحتلال الإنجليزي، ودخلت بعدها في مجموعة من التفاعلات السياسية التي خلفت مردودا إيجابيا حينا ومردودا كارثيا أحيانا أخرى، ولكنها في كل مراحلها تمتعت بقوة وحضور فني وأدبي وثقافي منقطع النظير، كان لديها القدرة في أحلك ظروفها على أن تصدر "الموضة" والأزياء الرفيعة إلى دول أوروبية رائدة الآن في هذه المجالات.
في أشد فترات ضعفها وإنغماسها في حروب وصراعات ومعارك، كانت تحتفظ بمكانة فنية عظيمة بسبب إنتاج سينمائي ضخم، أفرز حشدا من المبدعين من المخرجين والفنانين والكتاب، فتجد صفحات الجرائد تفرد مانشيتات لوقائع معركة هنا أو إضطراب داخلي هناك، وفي نفس العدد أحد عمالقة الفن يحكي سيرته، أو يسرد خلاصة تجربته.
كانت أصوات غارات العدو تدوي لتبث القلق في النفوس، لتخرج بعدها أم كلثوم لتعلن بث الأمان وطمأنة الوجدان لملايين المصريين، والتي كانت قادرة على أن تنسي المصريين عذابات أيامهم بحفلة يطرب لها الجميع حتى بعد أن تنتهي لأيام عديدة، الراديو ذاته الذي كان يبث أخبارا سيئة، كان يحمل "هدية" ثمينة للمستمعين، في شكل معزوفة تحمل توقيع بليغ حمدي بصوت العندليب عبدالحليم حافظ.
كيف كان الحزن في أيام يطل فيها إسماعيل ياسين وماري منيب والقصري وعبدالمنعم إبراهيم، زبيدة ثروت وهند رستم، ومن بعدهم سعاد حسني وأحمد زكي ومحمود عبدالعزيز وميرفت أمين ونور الشريف، كيف كانت الهموم وهناك وردة ونجاة وفايزة أحمد، كيف كانت الغفلة وحاضر بقوة نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ومحمد التابعي ومصطفى وعلي أمين.
أين العمالقة في أيامنا هذه، أنظر لنخبة المبدعين والنجوم من حولنا ستجد "محنة حقيقية" تدمي القلب والعقل والروح، سوء الأحوال في أماكن التصوير وقاعات العرض لاتقل بحال عن مقرات الحكومة وغرف إتخاذ القرار في البلاد.
المواطن المصري حاليا الذي تعصف به الأزمات والمشكلات الحياتية والإقتصادية، تم تجريد أيامه تماما من أية قيمة أو هدف أو متعة، غاب عنه السكر والخبز والكهرباء وصوت محمد قنديل وشموخ يوسف وهبي وواقعية صلاح أبو سيف.