المظاهرات وحركة الاحتجاج الواسعة التى عمت أغلب المدن الإيرانية بما فيها العاصمة طهران, ليست كغيرها من احتجاجات سابقة واجهها النظام بالقمع, وأشهرها تلك التى وقعت فى 2009 انتصارا للتيار الإصلاحى فى مواجهة الجناح المتشدد, أى أن الأمر كان مقتصرا على فئة سياسية بعينها وأهداف محددة تتعلق بصراع النخبة, أما الفارق الجوهرى هذه المرة فيتمثل فى شمول هذه الحركة, سواء فى الفئات المعبرة عنها -التى تضم جميع أطياف المجتمع- أو فى أهدافها وارتفاع سقف مطالبها, التى بدأت بالأسباب الاقتصادية والاجتماعية وتصاعدت إلى حد المطالبة بإسقاط النظام, وفى سابقة نادرة يتم حرق صور آية الله الخومينى والمرشد الحالي, فى إشارة رمزية دالة على عمق التغيرات التى تشهدها الساحة الداخلية.
ليس خافيا كيف أثرت إيران بشدة منذ نجاح ثورتها الإسلامية 1979 على منطقة الشرق الأوسط برمتها وأعطت زخما لصعود وانتشار جماعات الإسلام السياسي, وغذت طموحاتها فى الوصول إلى السلطة, بعد أن قدمت لها النموذج, الذى يمكن أن تحذو حذوه كل القوى صاحبة المشاريع المشابهة, يستوى فى ذلك كونها سنية أو شيعية, فالقضية ليست فى المذهب وإنما فى الفكرة والمبدأ ذاته, لذلك لم يكن غريبا أن تؤيدها جماعة الإخوان (الجماعة الأم لكل التنظيمات السنية) وتقلل من أهمية الاختلافات المذهبية مادام هناك هدف أكبر وهو إقامة الدولة الإسلامية وضمان استمرارها, وأن تدعم طهران من جانبها حركات سنية من حماس إلى القاعدة, وأن تتحالف مع دول سنية أيضا من تركيا أردوغان إلى قطر والسودان.
لكن هذا لم يمنع أن يكون للنظام الإيرانى مشروعه الخاص بطابع طائفى شيعى فارسي, أسبغ عليه نوعا من القداسة (حكم الولى الفقيه أى نائب الإمام الغائب وفق العقيدة الشيعية) والثورية (نصرة المستضعفين فى الأرض أو تصدير الثورة وهو بند صريح تضمنه الدستور) باختصار, مشروع امبراطورى يقوم على التوسع وبسط النفوذ فى أرجاء المنطقة, ولنفس السبب تم مبكرا إنشاء جهاز الحرس الثورى ليكون القوة الموازية للجيش, بهدف حماية النظام داخليا وتحقيق طموحاته العسكرية خارجيا, ولذلك يُعد لاعبا أساسيا على المستويين, خاصة مع تغلغله فى كل مؤسسات الدولة واستحواذه على جانب كبير من الاقتصاد والمناصب الوزارية, ومعروف أن الرئيس السابق أحمدى نجاد جاء من بين صفوفه.
فى هذا السياق, تعاظم النفوذ الإقليمى لإيران وأصبح لقوات الحرس الثورى وجود فعلى على الأرض فى أكثر من دولة واحتلت أجزاء منها, وأنشأت أحزابا موالية وميليشيات مسلحة, وخاضت حروبا بالوكالة من أفغانستان إلى العراق ولبنان وسوريا واليمن والبحرين والإمارات وشرق السعودية, ولم تكن هذه هى المشكلة الوحيدة, إذ دخلت طهران بحكم سياساتها التوسعية فى صراع مفتوح مع الرياض, إحدى أكبر القوى الإقليمية السنية, بحيث أصبح الوصول إلى تسوية سياسية لأى نزاع فى دول المنطقة شبه مستحيل, فضلا عما يؤدى إليه من ترسيخ للحروب الأهلية وإطالة أمدها, والأهم أنه يشكل تربة خصبة لتزايد قوة الإسلام السياسى بكل روافده وتياراته ومرجعياته المذهبية على حساب جميع الاتجاهات والقوى المدنية على مستوى المنطقة ككل.
هذا التنافس والصراع الإقليمي, الذى اتخذ مظهرا حادا فى الآونة الأخيرة, لم يكن بعيدا بالطبع عن القوى الدولية وفى مقدمتها الولايات المتحدة, التى مازال الشرق الأوسط يشكل لها منطقة إستراتيجية حيوية لن تسمح بخروجه من تحت سيطرتها, حتى وإن اختلفت بعض السياسات من إدارة إلى أخري, وقد اختارت الإدارة السابقة سياسة الاحتواء والمهادنة مع إيران, وطالب باراك أوباما السعودية صراحة بقبول تقاسم النفوذ الإقليمى معها, إلى جانب توقيعه الاتفاق النووى معها, تمهيدا لرفع العقوبات عنها, إلا أن المشهد تغير تماما مع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض, فلم يطالب فقط بمراجعة هذا الاتفاق, الذى لاقى تأييدا من الكونجرس, وإنما أدرج الحرس الثورى (وهو جزء لا يتجزأ من النظام) ضمن لائحة المنظمات الإرهابية, وأعاد توصيف إيران فى وثيقة الأمن القومى التى أعلنت الأسبوع الماضى كدولة مارقة, معتبرها مصدر الإرهاب فى العالم, ووفقا لما نشرته النيويورك تايمز فقد تم إنشاء وحدة خاصة لمحاصرة النشاط الإيرانى داخل المخابرات المركزية الأمريكية, كدلالة على الأولوية التى باتت تحتلها إيران فى الإستراتيجية الجديدة, بعبارة أخرى سيتم التضييق عليها ومحاصرتها مجددا, لذلك لم يكن غريبا أن يسارع ترامب بتأييد المظاهرات المناهضة للنظام هناك, وأن يؤكد نائبه مايكل بنس أن بلاده لن تخذل المحتجين والمطالبين بالحرية, كما فعلت من قبل, وكلها مؤشرات على مرحلة جديدة فى التعامل معها.
ما يهمنا التوقف عنده هنا, أن هذه المتغيرات الدولية والإقليمية لم تتقاطع فقط مع الأحداث الداخلية, وإنما مع طبيعة المطالب التى رفعها المتظاهرون اعتراضا على المشروع الإيرانى التوسعي, الذى استنزف موارد الدولة وأفقر شعبها وزاد من معدلات البطالة رغم أنها من أهم الدول المنتجة للنفط والغاز, بل إن عزم الحكومة على إلغاء الدعم عن السلع الأساسية والطاقة كانت الشرارة الأولى التى أشعلت الانتفاضة الشعبية, ليطالب المحتجون بعدها بضرورة الانسحاب من سوريا والكف عن دعم الوكلاء والحلفاء الإقليميين,لإعادة توجيه طرق الإنفاق, بما يحقق الرضا لمواطنيها, أى أن هذه الاعتراضات جاءت على خيارات النظام نفسه, الذى يحتكر الثروة ويصدر الثورة تحقيقا لطموحاته التوسعية, وليس فقط على سياسات الحكومة, كما حاول المرشد الأعلى أن يختزل الأمر فيها. باختصار أصبح المشروع الإيرانى -لأسباب داخلية وخارجية مختلفة- تحت المجهر من الجميع, بل على المحك.
إن كثيرا من الكتابات ذهبت إلى استحالة سقوط النظام نظرا لقبضته الأمنية والعقائدية الحديدية, وقدراته الهائلة على قمع الحريات, ومصادرة حقوق الفئات الاجتماعية المختلفة من المبدعين والمفكرين والمرأة, إلى الأقليات التى يموج بها المجتمع الإيراني, ولكن عناصر القوة هذه ستتحول مع الوقت إلى عناصر ضعف, وسيحدث التغيير إن آجلا أو عاجلا, لكن فى كل الأحوال سيتأثر مشروعها الإقليمي, لتعود إلى داخل حدودها مثلها مثل غيرها من القوى الإقليمية, وإن حدث ذلك فستهدأ موجة الإسلام السياسي, إذ لن يعود هناك مبرر لتوظيفه بهذا القدر فى حروب الوكالة المستشرية بالمنطقة, وقد لا تكون هذه النهاية, ولكنها بداية النهاية.