القاهرة - مصر اليوم
تبدو إيران كما لو كانت على موعد مع موجة كبيرة من موجات الاضطرابات الشعبية كل عقد من الزمان، حدث هذا فى عام 1999 عندما تم حجب صحيفة «إسلام» الإصلاحية فاندلعت حركة طلابية واسعة قامت قوات التعبئة على إثرها باقتحام مساكن الطلاب فى جامعة طهران، وتكرر الأمر فى عام 2009 بعد إعلان فوز محمود أحمدى نجاد بفترة رئاسية ثانية فاندلعت مظاهرات حاشدة سُميت بالثورة الخضراء عمت طهران ومدنا إيرانية أخري، وقد تدخل الحرس الثورى لإخماد هذا الحراك كما ألقى القبض على مير حسين موسوى ورفيقه مهدى كروبى وتم وضعهما رهن الإقامة الجبرية، وها هى الاحتجاجات تندلع مجددا فى ديسمبر 2017 وتمتد لبضعة أيام فى العام الجديد على خلفية الأزمة الاقتصادية التى تمر بها إيران، ورغم أنها بدأت فى مدينة مشهد إلا أنها سرعان ما انتشرت فى أنحاء مختلفة وصولا إلى العاصمة نفسها.
هكذا يتضح أن إيران تعرضت للاحتجاجات الشعبية فى ظل رؤساء من مختلف التيارات السياسية بدءا من الرئيس الإصلاحى محمد خاتمي، مرورا بالرئيس المحافظ محمود أحمدى نجاد، وانتهاء بالرئيس المتحول من المحافظة للإصلاح حسن روحاني. كما يتضح أيضا أن هذه الاحتجاجات الشعبية اندلعت نتيجة حزمة مختلفة من الأسباب، من تقييد حرية الرأى والتعبير فى 1999، إلى ادعاءات تزوير نتائج الانتخابات فى 2009، إلى الصعوبات الاقتصادية فى 2017/2018. كما أن إيران جربت الاحتجاجات العفوية التى لا قائد لها فى ظل خاتمى وروحانى وجربت الاحتجاجات التى قادتها زعامات سياسية فى ظل نجاد، وعلى حين تدخل الحرس الثورى فى 2009 تكفلت قوات التعبئة والشرطة بإخماد الاحتجاجات الأخري. وإذا كانت الموجة الأخيرة من الاحتجاجات فى ظل روحانى قد انطلقت من مدينة مشهد أى من خارج العاصمة إلى داخلها فإن التحرك فى ظل خاتمى ونجاد انطلق من طهران للمدن الكبري.
المقارنات السابقة بين الموجات الاحتجاجية الشعبية لا تشمل الاضطرابات الأقل حدة التى كانت تندلع لأسباب مختلفة منها التمييز ضد الأقليات مثلا، لكنها كافية لتوضيح أن البيئة الإيرانية محملة بالعديد من عوامل الغضب الشعبى التى تنتظر ما يُعَجَّل بانفجارها. وفيما يخص أحداث الأسبوعين الأخيرين فكما سبق القول كان الاقتصاد هو محركها الأساسي، هذا على الرغم من أن عامى 2016 و2017 شهدا تحسنا نسبيا فى بعض مؤشرات الاقتصاد الإيرانى لكن المشكلة أن روحانى كان قد ورث تركة ثقيلة عن الرؤساء السابقين, وبالتالى فإن التحسن الذى أنجزه يظل محدود الأثر، هذا من جهة. ومن جهة أخرى تُعلمنا نظريات علم الاجتماع أن الحرمان النسبى أشد وطأة من الحرمان المطلق، وقد جاء مشروع الميزانية الجديدة ليزيد من حرمان قطاعات واسعة من المواطنين بمواصلة سياسة ترشيد الدعم مقابل زيادة المخصصات المالية للحرس الثوري. ومن جهة ثالثة فإن الأزمة التى ضربت المصارف الإيرانية نتيجة عدم اندماجها بشكل كامل فى النظام المصرفى العالمى عصفت برؤوس أموال العديد من أبناء الطبقة الوسطي، وهذا يعنى أن المعاناة الاقتصادية تجاوزت حدود الطبقة الفقيرة. جدير بالذكر أن عدد المضارين من ظاهرة إفلاس المصارف والمؤسسات المالية فى مدينة مشهد وحدها بلغ 140000 مستثمر كما جاء على لسان السيد حسن نصر الله، ولعل هذا يبرر جزئيا انطلاق الاحتجاجات من مشهد فضلا عن أن مشهد هى المعقل الانتخابى لابراهيم رئيسى منافس روحانى فى انتخابات 2017.
ومع أن الاحتجاجات الشعبية الأخيرة لم تكن بقوتها فى عامى 1999 و2009 لا من حيث الأعداد ولا من حيث شدة المصادمات، إلا أنها لا تقل خطورة عنهما لأن روحانى باختصار لا يمكنه تعديل الوضع الاقتصادى بكبسة زر كما يقولون، وهو مضطر للجوء إلى سياسة تقشفية لضبط العجز فى الموازنة. على صعيد آخر فإن الدور الخارجى لإيران مرتفع التكلفة حفاظا على مكاسبها الإقليمية الإيرانية فى العراق وسوريا واليمن ووجودها فى لبنان. وبالتالى فإن السؤال الذى ستواجهه إيران فى مقبل الأيام هو: كيف يمكنها أن تحافظ على الرضاء الشعبى الداخلى فى ظل أزمة اقتصادية عابرة للطبقات؟ جدير بالذكر أنه من دون توافر هذا الرضاء الشعبى يستحيل الترويج لمبدأ تصدير الثروة إذ كيف تُقنع إيران مستضعفى الخارج بتأييد نموذجها السياسى بينما يشكو مستضعفو الداخل من شظف العيش؟. أزعم أن تهديد شرعية النظام أخطر من تهديد أمن الدولة الإيرانية لأنه فى نهاية الأمر هناك قوى دولية قادرة على كبح جماح أى اندفاع أمريكى /إسرائيلى لمهاجمة إيران، فضلا عن أن إيران نفسها طورت مُعامل قوتها على نحو يمثل كابحًا آخر لهذا الاندفاع. أما تظاهر المواطنين الإيرانيين ضد النظام فإنه يحرج القيادة الدينية والسياسية إحراجا شديدا ويحول الأنظار من نجاحاتها الخارجية إلى أزماتها الداخلية.
نعم أخمدت إيران ما تطلق عليه الفتنة بتكلفة محدودة لأن النظام مازال يعد قويا، لكن ماذا عن آليات توليد المزيد من موجات الغضب الشعبى فى ظل ثنائية المصاعب الاقتصادية وتكلفة الدور الخارجي؟ لعل إيران توجه نظرها للداخل أكثر، وتمد يدها لحوار جاد مع العرب حول القضايا التى تجمعها بهم ، ولا تنسى نفسها حين تأمر العالم بعدم التدخل فى شئونها وهى التى لا تترك ثغرة للتمدد فيها إلا وتمددت.