القاهرة - مصر اليوم
مع نهايات العام المنصرم وانطلاق إرهاصات عام 2018، يقفز إلى الواجهة الهمّ الاقتصادي، ليس فقط على صعيد المنطقة العربية وبلدانها، بل أيضاً على الصعيد العالمي بأسره، كعنوان عام ومظلة عريضة يندرج تحتها كثير من الموضوعات المتنوعة والقضايا الفرعية والمسائل الجزئية، سواء تلك التي تتصل مباشرة بالشأن الاقتصادي في سياق تعريفه الضيق والمحدود، أو تلك التي تقع في إطار ارتباط أوسع للاقتصاد بالبيئة الأعم والأشمل المحيطة به التي يشكل الاقتصاد أحد مكوناتها من جهة ويتحرك فيها كأحد روافدها من جهة أخرى، وهي البيئة الإنسانية بأبعادها المتعدّدة ومستويات تفاعلها المختلفة.
ولا شك في أن الهم الاقتصادي العالمي، بما في ذلك العربي، ليس وليد اليوم ولا الأمس القريب، بل له جذوره العميقة والتي تمتد تاريخياً إلى حقب سابقة وفترات منقضية من تاريخ البشرية، إلا أنه يمكننا القول أن الأزمة المالية، ومن ثم الأزمة الاقتصادية التي نتجت عنها، والتي نشأت في قلب النظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي في خريف عام 2008، وأثرت، وإن بدرجات متفاوتة، في مختلف أنحاء وبقاع العالم، تمثل ما يمكن أن نطلق عليه الجذور المباشرة للكثير مما يعاني العالم منه الآن على الصعيد الاقتصادي. ولا يعني ذلك إنكار جهود جدية ممتدة من جانب بعض الأطراف الرئيسة في النظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي، لتجاوز أزمة 2008 وآثارها. ونشير هنا كذلك إلى الدعم الفعال الذي قدمته أطراف دولية أخرى منذ ما بعد الأزمة مباشرة لمساعدة ذلك النظام على النهوض من كبوته، وتمكينه من التحول تدريجاً من معدلات نمو سلبية، مروراً بمراحل التثبيت، وصولاً إلى الانتقال، إلى مراحل متجددة من النمو، ولو حتى بنسب متواضعة، في الكثير من الحالات.
وحالة الاقتصاد لا تؤثر فقط في النطاق الاقتصادي بحدوده المعروفة نظرياً؛ والتي تشمل أنشطة الزراعة والصناعة والتجارة وقطاعات الخدمات على تنوعها، وكذلك موضوعات البنية التحتية عموماً من وسائل نقل ومواصلات وطرق وأنفاق وجسور، وموضوعات متعلقة بالبحث العلمي وأنشطة البحث والتطوير وتنمية تكنولوجيا ملائمة أو نقل التكنولوجيا وتطويعها للاحتياجات المحلية، وما يرتبط بذلك من سياسات واستراتيجيات ومعايير في مجالات ذات صلة مثل الملكية الفكرية والابتكار، وذلك ليصل إلى الدائرة الأوسع بحيث يؤثر في ويتأثر بالكثير من أوجه الحياة الإنسانية في خطوطها العريضة من حياة سياسية وحالة ثقافية، بل وفنية ورياضية وغيرها من مصادر ومكونات القوة الناعمة وقبل ذلك كله وبعده التفاعل مع المجتمع ودينامياته. فنتائج تترتب مباشرة على النشاط الاقتصادي مثل معدلات البطالة وطبيعة المناهج والمتطلبات الأخرى الخاصة بالتعليم، سواء الأساسي أو الجامعي أو الفني، وارتباطها باحتياجات سوق العمل، ومدى اندماج المرأة في النشاط الاقتصادي وتمتعها بحقوق متساوية من عدمه في سوق العمل، وارتباط ذلك بالبيئتين التشريعية والقانونية المحيطتين بالنشاط الاقتصادي ولكن المشتملتين أيضاً على ركائز ترتبط بالتاريخ والتقاليد والثقافة والمجتمع هي كلها عوامل تشهد على تغلغل الاقتصاد في كافة مناحي الحياة الإنسانية، وهو أمر ليس بمستجد اليوم أو مؤخراً بل موجود ومحسوس في مجتمعاتنا منذ زمن بعيد.
ولكن للهم الاقتصادي في عالمنا اليوم، بما في ذلك في منطقتنا تبعات أخرى، لا تقتصر على المعايير الاقتصادية بتعريفها الضيق فقط، ولا حتى على مسائل مجتمعية أعم مثل متطلبات تحقيق القدر الأوفر من العدالة الاجتماعية أو التمكين الواسع للمرأة أوالإصلاح التشريعي والقانوني أو أنشطة البحث والتطوير أو غيرها من المجالات التي ذكرتها من قبل في هذا المقال فقط، بل إن الأمر يمتد إلى تأثيرات مباشرة ومحسوسة على أرض الواقع وذات طابع مستمر، بل قد يكون يومياً، على التفاعل مع ضرورات التعايش والتكافل الاجتماعي والسلم الأهلي داخل كل مجتمع، سواء تجاه ما به من أقليات عرقية أو غير ذلك أو عبر التعامل على سبيل المثال مع المهاجرين أو اللاجئين أو حتى المقيمين لأغراض موقتة مثل الدراسة والعمل من خلفيات ثقافية واجتماعية متنوعة ومن هويات وطنية مختلفة. كما تسري تلك الملاحظة على الصعيد العالمي ككل بالدرجة ذاتها من القلق وإن عبر آليات مختلفة عن حالة المجتمعات الوطنية. ولهذه الظاهرة سوابق عديدة، سواء في تاريخ المجتمعات الوطنية أو على صعيد المجتمع الدولي ككل، وبعض هذه السوابق ليست بعيدة عنا زمنياً بل هي لا تزال عالقة بأذهاننا وماثلة أمام عيوننا نكاد نراها رؤية العين. فعلى سبيل المثال واجه العالم مشهداً مماثلاً ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية خلال القرن العشرين، خصوصاً مع الأزمة الاقتصادية العالمية الكبرى التي اندلعت في عام 1929، وكانت هي وتبعاتها أحد العوامل المهمة التي قادت العالم إلى الحرب العالمية الثانية بعد ذلك التاريخ بعقد كامل من الزمان.
ولا جدال أن العالم أدرك أنه بالقدر ذاته الذي تمكنت به الرأسمالية كنظام اقتصادي، سواء على المستوى الوطني للدول أو على المستوى الدولي، من أن تتأقلم مع المتغيرات المحيطة، بما فيها متغيرات ناتجة عن الثورة العلمية والتكنولوجية المتصاعدة، خصوصاً في قطاعي الاتصالات والمعلومات وغيرهما، بمعدلات متسارعة، وأيضاً بالقدر ذاته الذي تمكنت به من التكيف مع وقائع جديدة، بل وأحياناً مع معطيات أيديولوجيات وأنساق مغايرة لها، وفي بعض الأحيان متنافسة معها أو تطرح نقيضاً لها مثل الماركسية والاشتراكية وغيرهما، وتمكنت أحياناً من استيعاب بعض تلك المعطيات وتوظيفها لخدمة استراتيجياتها الأعم وأهدافها وغاياتها الأشمل، مثل تبني نظم التأمينات الاجتماعية والمعاشات، ثم التأمين الصحي والتعليم المجاني في بعض الحالات، فإنها لا تزال تعجز بالقدر ذاته عن تفادي أزماتها الدورية، والتي هي جزء مكوّن لها أو بتعبير أدق ناتج منطقي لتناقضاتها، وذلك على رغم كل ما توصلت إليه من تقدم في أوجه عديدة، بل إنها حتى تعجز عن التنبؤ مقدماً بتلك الأزمات، أو التقليل من حدتها أو حجمها. والواقع هو أن العكس تماماً هو الذي يحدث: فتلك الأزمات تزداد حدة وضراوة وشراسة في تأثيراتها المباشرة أو غير المباشرة ليس فقط على البلدان الصناعية الرأسمالية المتقدمة الكبرى، ولكن أيضاً على كافة الاقتصاديات في العالم، بما في ذلك الكائنة على هامش النظام الاقتصادي العالمي وليس في قلبه، وإن بدرجات متفاوتة، مثل الاقتصاديات العربية، كما أن آثارها تمتد إلى ما بعد حدود الاقتصاد التقليدية إلى مجالات اجتماعية وثقافية وسياسية وإنسانية في السياق الأرحب.
وما زال العالم يجتهد، كل بلد أو منطقة بحسب أطروحاته الفكرية وصيغه الأكثر ملاءمة، للخروج، سواء الكلي أو الجزئي، التدريجي أو السريع، من تحت مظلة أزمة 2008، ولئن تحقق النجاح في بعض الحالات أو القطاعات، فإنه لا يزال أقل كثيراً من المأمول أو المفترض حتى تتمكن البيئة الاقتصادية الدولية من التعافي وتوفر دور الحاضنة التي تسمح باستعادة معدلات نمو معقولة، بدون أن نقول مرتفعة، وهو الأمر الأكثر أهمية في شكل خاص للبلدان ذات الاقتصاديات النامية أو البازغة على حد سواء، والتي تندرج كافة البلدان العربية في إطارها،إلا أن ما تحقق في هذا المضمار مازال يعتبر متواضعاً، وتخيم آفاق يغلب عليها التشاؤم، بما في ذلك في بلدان ومناطق صناعية متقدمة، بشأن فرص وإمكانات وسبل الخروج الكامل من تحت عباءة تلك الأزمة، ومن المؤكد أن الأمر سوف يستلزم أفكاراً وحلولاً وصيغاً غير تقليدية، ورؤية أشمل من مجرد الاقتصار على الاقتصاد وحده بمعاييره الكمية ومؤشراته الحسابية، واستشرافاً لآفاق إنسانية رحبة ونظرة عالمية تدرك أن العالم صار كلاً لا يتجزأ وأن ازدهار جزء منه لا يجب أن يتم على حساب إفقار جزء آخر وأن مفاهيم العدالة والتوازن والتكافؤ هي ليست حديثاً محلقاً في الخيال بل ضرورات لن تقوم أي تنمية أو تقدم بدونها، وفي النهاية إدراك أن الاقتصاد هو جزء من كل ويجب أن يتم توظيفه للكل، أي لخدمة إحداث حالة رفاه إنساني أعم وأشمل وارتقاء بحياة البشر كافة.