بقلم : سمر عبد الرحمن
"وهبت نجلي للوطن"، عبارة قالتها والدة الشهيد النقيب مصطفى سمير بدوي، الضابط في إدارة مرور كفر الشيخ، والذى استُشهد إثر قيام شخص بسحب سلاحه الميري وإطلاق النار حتى استقرت طلقة في قلبه أدت إلى استشهاده، تلك العبارة لم تكن مجرد كلمات أطلقتها والدته باكية، إنما طلقات استقرت في قلوب وأذهان الآلاف من أبناء المحافظة، نعم وهبت تلك السيدة نجليها الضابطين للوطن، وهي تعلم تمام العلم أنهما من الممكن أن يكونا شهيدين في سبيله، في ظل ما يحدث من عمليات إرهابية خسيسة تغتال أولادنا لا تفرق بين عسكري ولا مدني إنما استهدفت كل أطياف الشعب المصري، لكن أن يموت شاب في مقتبل عمره وهو يؤدي عمله على يد شخصا لمجرد أنه حرر له مخالفة مرورية، فهذه كانت الفاجعة التي أدمت قلوب أبناء كفر الشيخ، فجعلتهم يخرجون على بكرة أبيهم في مسيرات تُطالب بإعدام القاتل.
وهنا أتساءل، أي حب هذا الذي جعل قلوب أبناء كفر الشيخ حزينة على رحيلك يا مصطفى؟ ماذا قدمت لهم كي يدشنوا حملات كثيرة تدعو لك بالرحمة والمغفرة وأخرى تجمع تبرعات لعمل صدقة جارية على روحك، وثالثة تطالب بالقصاص العادل، ورابعة يختم أعضاؤها القرآن الكريم كصدقة لك؟ أي حب هذا يا شهيد الذي أجبر سائقو التاكسي والميكروباص لإعلان الحداد وتعليق صورك على سياراتهم؟ أي حب هذا الذي جعل الآلاف يتسابقون في حمل جثمانك الطاهر لتشييعه لمثواك الأخير؟ هنا أستطيع أن أجيب، أن الشهيد النقيب مصطفى بدوي كان رجلا شرطيا ملتزما، يتعامل مع الصغير قبل الكبير بحب وتواضع، يعرف مهامه كضابط وإنسان، يتمتع بدماثة خلق وروح جميلة ووجه بشوش، عف اللسان، طاهر اليد، لم يمنعه عمله من مواصلة صلة رحمه بالكثير من شباب المحافظة والأصدقاء والأهل، كان يُطبق القانون ويتعامل بروحه مع هؤلاء السائقين، لذا أقولها "رحيلك أدمى قلوب الجميع، من يعرفك ومن لا يعرفك".
لي مع رحيلك وقفة يا شهيد، قبل شهور قليلة كانت هي المرة الأولى التي أعرفك فيها، عندما كنت بجوار أحد أقاربي في سيارتنا، نمر من أمامك في الطريق بين كلية التربية والتجارة عند مدخل مستشفى كفر الشيخ الجامعي، وكانت معي إحدى قريباتي التي أجرت عملية جراحية، وأوقفتنا بكل احترام طلبت منا رخصة القيادة، وجدتها منتهية منذ أيام ولظروف وفاة والدي لم نقم بتجديدها ووقتها صمت أنا وتركت قائدها يتحدث معك ويشرح لك الظروف التي جعلتنا نسير "مخالفين"، وقتها تعاملت معه بروح القانون، دون معرفتي لكن تفهمك للظروف وللحالة الصحية التي كانت عليها قريبتي تركته وطالبته بالالتزام وضرورة تجديد الرخصة.
هنا نزلت من السيارة وقولت له شكرا لتفهمك لظروفنا، وجدته بشوشا، مبتسما، متسامحا، فقولت له إنني أعمل "محررة صحافية"، وتعرفت عليه ووقتها رد علي مبتسما قائلا "خلاص مش علشانك لكن علشان الحاجة المحترمة اللي معاكوا دي اللي لسه خارجة من المستشفى، بس يا ريت تروحوا تجددوا الرخصة"، وقبل أن أتركه جاء أحد أفراد الشرطة يعرفني جيدا فقال له دي أستاذة محترمة نعرفها من سنين كتير يا باشا، فرد قائلاً "أنا سيبتهم من قبل ما أعرفها، لم ينته الموقف بل جاءه أحد سائقي التاكسي متظلما من قيام أحد الأفراد بتحرير مخالفة فوجدته يتعامل معه كابن وليس كضابط وطيب خاطر السائق ولم يتركه إلا راضيا، دعواته له تسابق كلماته، ولم يكن هذا الموقف الوحيد الذي تعامله مع الشهيد بروح القانون، فحكى لي صديق عن موقف حدث أمامه، عندما قام الشهيد بتحرير مخالفة لسائق تاكسي وتظلم هذا السائق فرد عليه قائلا: "المخالفة بـ100جنيه، ولو زادت أنا هدفع الباقي، وعندما ذهب الساق لتجديد الرخصة وجدها بـ300 جنيه فمر من أمام النقيب الشهيد ضاحكاً قائلا: "المخالفة بـ300 جنيه يا مصطفى بيه، فأصر هذا الضابط على إعطاء السائق 200 جنيه وهما الفرق بين المخالفة وعندما اعترض السائق رد قائلا: "أنا اديتك كلمة وقلتلك لو زادت المخالفة عن 100 جنيه أنا هدفع الفارق"، لم يسع صدر السائق سعادته، وأيضا تسابقت دعواته كأنها تسابقت للسماء قبل استشهاده بأيام قليلة.
بعد هذا الموقف كنت أمر عليه وألقي عليه السلام ضاحكة "صباحك خير ورضا يا قائد" فيرد السلام بابتسامة وكلمات تعبر عن خلقه وتواضعه والتزامه أيضا، ووقت سماعي وأهل المحافظة خبر استشهاده، كنا بين مصدق ومُكذب، ندعو الله أن تكون حيا لكن لا نقول إلا ما يرضي الله، فأنت شهيد والشهيد حي يُرزق عند الله، فراقك أحزن قلوبنا جميعا، لأنك لم تمت وأنت تُحارب الإرهاب بل استشهدت على يد شخص متهور، نعم استشهدت وأنت تؤدي عملك وهذا هو عزاؤنا، ندعوا الله أن يتقبلك من الشهداء وأن يُلهم أسرتك وزوجتك وطفلتك التي لم تعِ وتدرك فراقك الصبر والسلوان.