توقيت القاهرة المحلي 16:35:03 آخر تحديث
  مصر اليوم -

ذكريات الماضي ليتها تعود

  مصر اليوم -

ذكريات الماضي ليتها تعود

محمد فتحي

بعيدًا عن هموم الوطن, بعيدًا عن الثورة والثوار, بعيدًا عن الفلول والأحرار, بعيدًا عن خارطة الطريق والإخوان والإرهاب وحمدين والسيسي, والحال المتردي من كل النواحي "اقتصاديًا  وسياسيًا وأخلاقيًا لشعب مصر العظيم، أعود إلى مسقط رأسي سريعًا، قرية "البهسمون" مركز أهناسيا في محافظة بني سويف في صعيد مصر الغالي وتحديدًا قبل نهاية حكم السادات، وبداية عهد مبارك, إذ تفتحت عيناي على مجتمع  تقام فيه أركان الإسلام, وتستقر فيه الفضائل والأخلاق, مجتمع ينام بعد صلاة العشاء ومع سماع تسبيحات الفجر وصوت الآذان، يستيقظ الناس، كل يبحث عن شأنه وحاله, كلمات والدي رحمه الله لا تزال تسري في أذني وهو يردد ويقول سبحان الواحد الأحد، سبحان الفرد الصمد, سبحان من لا يغفل ولا ينام , الصلاة خير من النوم, ثم يوقظ كل من في الدار لصلاة الفجر، فنذهب نحن الصبية إلى المسجد مع والدي, ووالدتي رحمة الله علىها تصلي في البيت وتستعد لإحضار الإفطار, وبعدها نستعد للذهاب إلى المدرسة الابتدائية في قريتنا،  ولا أزال أتذكر عدد الطلاب في الفصل، كان لا يتجاوز الـ15 تلميذًا فقط, وكان أولية الجلوس تبعا للاجتهاد، فالمتفوقين يجلسون في المقاعد الأمامية وبفضل الله كنت أجلس في المقاعد الأمامية. ويأتي شهر رمضان، فيحتفل الجميع بمظاهر,لا تنسى, فرحة في كل مكان, وجوه مشرقة, خير وفير, تجتمع العائلات طوال الشهر الكريم على مائدة واحدة، الغني والفقير على حد سواء, وكل الموائد بها أصناف متعددة  من الطعام, نسهر في حلقات الذكر والقرآن وننتظر صلاة التراويح ونتسابق على حفظ القرآن، ويحاول الشيخ وجيه إمام المسجد متعة الله بالصحة، أن يقدمنا في صلاة التراويح ويمنح الفرصة للحافظين جيدا, بعدها نخرج إلى جلسات السمر على المصاطب في الحارات, كل ذلك قبل أن يصل التيار الكهربائي إلى قريتنا، ونعرف الدراما  التلفزيونية، فجاءت الكهرباء لتقضي على نقاء القلوب والعقول ويأخذ المجتمع الريفي صفات دخيلة عليه, لقد كانت حياة بسيطة جميلة ناعمة راقية فيها الدفء والحنان والإخلاص والأخلاق والمبادئ والقيم والاحترام والتفوق والعمل, فيها الخير الوفير والصدق والأمانة والأسرة الكبيرة وصلة الأرحام. ثم يأتي موسم حصاد القمح وبعد أن يجهز "الجورن"مكان تخزين الغلال ويتم فيه فصل حب القمح عن التبن من خلال  أدوات بدائية هي "المدرة" ,يجلس أبي رحمة الله عليه ومن بعدة أخي الأكبر في الجرن ويحصرون القمح فيكال ويجنب منه أول بأول حق الله تعالى وحق الفقراء والمساكين، ويقول أبي إن الله أمرنا بذلك "وأتوا حقه يوم حصاده", ويوزع الحق على أصحابه في كتمان دون مهانة ولا ذلة , ولا تدخل حبة قمح في البيت قبل أن يتم إخراج حق الفقراء أولا. ثم يقبل موسم الحج إلى بيت الله الحرام الكعبة المشرفة في مكة المكرمة، فتحتفل البلد كلها بأولئك السعداء الذين كتب الله لهم الحج ويمتد الاحتفال أيام وليالٍ، وتدهن البيوت احتفالا بالحج ويأتي الخطاط ليكتب عبارات على شاكلة منزل الحج فلان ويكتب أيضا قول الله عز وجل "لله على الناس حج البيت لمن استطاع إليه سبيلا  "ويرسمون بعض الصور التي تعبر عن الرحلة سواء طائرة أو باخرة أو جمل, ويتكرر العمل عند العودة ويذهب المحتفون ليحصلوا على المسابح والجلباب وأغطية الرأس. مشاهد في حياتي لا تنسى، وتنطبع في أعماق ضمائر كل صبي, لا يمحوها مر السنين وتغير الحال ولا كر الأعوام. وفي مشهد  جديد إنه مشهد الموت في القرية،  فعندما توفي أبي رحمة الله عليه دون مرض، أصابتني هزة عنيفة جدا , وأضفى على هذه الهزة عمقا ما غمر أهل القرية أسرتنا به من مواساة تجل عن الوصف, وكذلك مشاركة أهل القرى المجاورة لنا العزاء طوال الأيام الثلاثة. وكنت أتساءل بيني وبين نفسي, لم كل هذا العواطف والأحزان وصنوف المواساة, هل لأن الميت من كبار أهل القرية, وتأتي الإجابة سريعا، فيموت في الشهر ذاته رجل من الفقراء, فإذا بسرادق ضخم اكتتب في ثمنه كل أفراد العائلة, وجاء إليه كل من جاءوا في عزاء والدي, ويتسابق الأقرباء في صناعة الطعام للرجال والنساء وبعض المعزيين الذين جاءوا من بلاد بعيدة, وكذلك قارئ القرآن، فأهل الميت لا يصنعون طعامًا، ولكن يأتي إليهم الطعام مدة أيام العزاء بالتبادل بين إفراد العائلة. واختم كلامي بمشهد مبهج, إذ مشهد زواج شاب من أبناء القرية من أسرة متوسطة الحال, بعد موسم حصاد القطن , فكان المشهد جميلًا في سرادق كبير أقيم على نفقة أهل القرية وتقام الليالي الموسيقية من خلال الطبل والمزمار البلدي كل ليلة لمدة أسبوع قبل موعد العرس، وتتبارى الفتيات في الرقص عند العروسة، ويلتف حولها الصبية والبنات فقط احتفالا بالعرس, ثم يأتي يوم الفرح ويجلس العريس في الصباح ليحلق رأسه ويأتي الأهل والأصحاب ليدفعوا له النقوط، ويذكرهم الحلاق بالاسم والكنية في ميكرفون يأتي به خصيصا لهذا الغرض, ثم يزف العريس عقب صلاة العصر ويطوف موكبه حول القرية ويتقبل هو وأهله التهاني من أهل القرية أثناء المرور في شوارعهم , ويتقدم الجميع شبان يعرضون مختلف ألعاب الفروسية بمشاركة العريس ثم تزف العروسة في جو من البهجة والمرح. كل ما تحدثت عنه، كان بعض من المواقف التي عشتها في قرية مصرية وتحديدًا في  نهاية السبعينات وبداية الثمانينات وأنا طفل صغير، مواقف أتذكرها جيدا، بل أتذكر بعض كلماتها تلك، هي قريتنا قبل أن يصيبها ما أصاب مصر والعالم العربي أجمع من انحلال أخلاقي وإنساني، كان مجتمعًا تسوده القيم الإسلامية والفضائل الدينية، لم يكن هناك إخوان ولا فلول ولا متشددون ولا علماء يكفرون الناس، إنها  أيام مصر في  الماضي ليتها تعود .

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ذكريات الماضي ليتها تعود ذكريات الماضي ليتها تعود



GMT 16:18 2023 الإثنين ,18 أيلول / سبتمبر

العراق فاتحاً ذراعيه لأخوته وأشقائه

GMT 16:33 2022 الأحد ,13 آذار/ مارس

بعد أوكرانيا الصين وتايون

GMT 13:32 2021 الإثنين ,20 كانون الأول / ديسمبر

عطش.. وجوع.. وسيادة منقوصة

GMT 22:28 2021 الجمعة ,12 آذار/ مارس

التراجيديا اللبنانية .. وطن في خدمة الزعيم

GMT 21:23 2019 السبت ,08 حزيران / يونيو

الثانوية الكابوسية.. الموت قلقا

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 01:58 2021 الأربعاء ,01 أيلول / سبتمبر

البورصة المصرية تربح 31.4 مليار جنيه خلال شهر أغسطس

GMT 23:21 2020 الأربعاء ,26 آب / أغسطس

بورصة بيروت تغلق على تحسّن بنسبة 0.37%

GMT 13:08 2020 الإثنين ,24 شباط / فبراير

7 قواعد للسعادة على طريقة زينة تعرف عليهم

GMT 01:27 2018 الإثنين ,26 شباط / فبراير

باحثون يؤكدون تقلص عيون العناكب الذكور بنسبة 25%

GMT 15:46 2018 الأربعاء ,07 شباط / فبراير

كارل هاينز رومينيجه يشيد بسياسة هاينكس

GMT 12:17 2018 الجمعة ,02 شباط / فبراير

Mikyajy تطلق أحمر شفاه لعاشقات الموضة والتفرد
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon