رياض كاظم
لم ينم أحد في تلك اللّيلة، بقيَّ الشبان يتجولون في الشوارع ويعربدون، على غير العادة خرجت العجائز من غرفهنَّ، وأخذنَّ بكنس عتبات البيوت، تجمّع الرجال في حلقات يثرثرون بغير اهتمام عن الحرب، الفتيات المراهقات إستغلن فرصة تسامح أهلهن فخرجن سافرات تحت ضوء القمر.
إنها ليلة غير عادية، حتى مأمور الشرطة حضر رفقة أربعة حراس، تجوّل قرب منزل منصور، ثم عاد أدراجه، بعض الرجال غمز للضابط بعينه، وابتسم وهو يلوي عنقه، بعضهم حيّاه بغير اهتمام، فلا شيء قد حدث يستوجب حضوره.
كل شيء هادئ ومسالم هذه اللّيلة، والناس سعداء.
زعق شاب معوّق في وجه الضابط "اذهب وارتح أيها الضابط، كل شيء على ما يرام".
رقص بعض الأولاد رقصتهم الجنوبية المعهودة، وتضاحكوا حينما مرت بهم الدوريّة، توقّف الضابط عند حلقتهم لدقائق، ثم حك ذقنه وغادر يتبعه الحرس.
لم يحدث شيء مريب، لكن الناس سعداء هذه اللّيلة (على غير العادة).
عاد الضابط أدراجه إلى المخفر.
عند الثانية ظهراً من ذلك اليوم، توجّه منصور إلى البار، حيث يجتمع أصدقاءه ومعارفه هناك، شرب زجاجات بيرة عدّة، على عجل، ثم مسح شاربيه وقال "قتلت محمد الأعور".
ساد الصمتُ للحظات، صمتٌ مريب، ثم عاد اللّغط ثانية، كأنَّ أحداً لم يسمع شيئاً، أو يهتم.
قام من على إحدى المناضد ثلاثة شبان، ورافقوا منصور إلى الخارج.
قال "قتلته في منزلي، جاء ليأخذني إلى الحرب، كما أخذ أبي وأخوتي، فقتلته".
لم ينطق الشبان بحرف، اقتربوا من المنزل وهم يتلفتون، ثم دخلوا حيث توجد جثة القتيل المدمّاة، لم ينتظروا طويلاً، سارعوا إلى تغطيتها بشراشف السرير، ونظفوا المكان من الدماء، ثم أحضر أحدهم سيارته، ونقلوا الجثة دون ضجّة.
سارت السيّارة وسط المدينة، وداخلها الرجال والجثة، كان الناس يبتسمون لهم ويحيّونهم، على غير العادة، تجمّع الأطفال والنساء عند عتبات البيوت ينظرون للموكب ويبتسمون، زغردت بعض النسوة، وهنَّ يمشطنَّ شعور بناتهنَّ، بعض العوائل أخرجت طعامها، وأخذوا يأكلون في الشارع، شعور غريب انتاب الناس عند مرور السيّارة، حتى أنَّ أشدّهم عداوة لبعض وجدوها هدنة سعيدة، فتقابلوا للمرة الأولى وتجاذبوا أطراف الحديث.
السعادة المباغتة التي حلّت بالمدينة أثارت شكوك ضابط الشرطة، فخرج يتجوّل مع حرسه، كان الحرس يغمغمون خلفه، ويطلقون النكات البذيئة، صادف مروره مع مجيء السيّارة، فأوقفها بإشارة من إصبعه.
توقف السائق المخمور.
تطلّع الضابط بالرّفاق الأربعة، كانت شواربهم تهتز بعنف، جال بصره فرأى في المقعد الخلفي، تحت أقدامهم، شيئاً ملفوفاً بشراشف بيضاء ملطخة بالدّماء.
اتّسعت حدقتا عينيّه، والتفت ناحية الحرس، وطلب منهم تفحص ذلك الشيء.
قال واحد من الحرس "لا شيء يا سيدي، إنه مجرد شوّال طحين".
قال الثاني "طحين لا يصلح للعجن".
ضحك الحارس "إنه حتى لا يصلح علفاً للحيوانات".
التفت الحارس ناحية الضابط وقال "أربعة سكارى ذاهبين لحفلة خبز يا سيدي".
غمغم الضابط، ونظر ناحية الناس المتجمهرين عند عتبات البيوت، رأى خللاً في عيونهم السعيدة والضاحكة، تهديداً واضحاً، هزّ رأسه، وسمح للسيّارة بالعبور.
قطعت السيّارة شوارع المدينة في احتفالية صامتة، مرّت بالشارع الرئيسي، ثم انعطفت إلى آخر فرعي، وآخر وآخر، بينما الناس يحيّون الشباب المخمورين باحترام وسعادة، حتى خرجت من المدينة، حيث بستان متشابك السّعف.
توقفت هناك، فأخرج الشبان الأربعة الجثة، وحملوها وتوغلوا إلى أكثر الأماكن تشابكاً، وعتمة، ورموها هناك.