د/ محمد بنلحسن
منذ سرقت ثورات الربيع العربي، الأضواء من جميع النزاعات التاريخية والمشاكل المعقدة التي ظلت هاجسا بالنسبة للعالم العربي خاصة، لاسيما بعدما أشعل جسد البوعزيزي لهيب بركان الغضب في عالمنا العربي؛ مغربه ومشرقه؛ بدءًا من تونس في 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 م، مرورًا بدول مصر وليبيا واليمن وسوريا، لم نعد نسمع شيئًا عن القضية الفلسطينية، والتي كانت حاضرة يوميًا وبقوة كبيرة في نشرات الأخبار العالمية والعربية على حد سواء، كان الجميع يرى يوميًا- تقريبا- الرئيس الفلسطيني عباس محمود أبو مازن، وطاقمه الرئاسي، وفريقه في المفاوضات بزعامة كبيرهم صائب عريقات، عبر شاشات التلفاز والفضائيات، ويطالع صورهم على الجرائد والمواقع باستمرار. لكن اليوم، وأمام هيمنة أنباء سوريا والعراق وتنظيم "داعش"، ومسألة التطرف في الشرق الأوسط وفي الغرب، على الاهتمام العالمي؛ والعربي خاصة، لم نعد نسمع أخبارًا متجددة وعاجلة بشأن ما يجري في الأراضي المحتلة، في غزة والضفة الغربية، وفي القدس والمسجد الأقصى؛ أولى القبلتين.
صحيح أنه بين الفينة والأخرى، تطل بعض قصاصات الأنباء من هناك، لاسيما عقب حصول تفجير فدائي فلسطيني ضد الاحتلال، أو خلال اعتداء المستوطنين الصهاينة على الفلسطينيين العزل؛ الذين اغتصبت أراضيهم بقوة السلاح، أو خلال شهر رمضان، حين تقدم سلطات الاحتلال على منع المصلين الشباب من دخول باحة المسجد الأقصى للصلاة؛ بحجة الاحتراز من التفجيرات، والأعمال العدائية ضد اليهود والمستوطنين.
السؤال الذي يطرح بإلحاح ههنا، هل تراجعت مرتبة القضية الفلسطينية على سلم الاهتمامات الغربية ، والأولويات العربية ؟
هل توصل الفلسطينيون والاسرائليون للسلام الذي ظلوا يتفاوضون من أجله منذ مؤتمر مدريد في إسبانيا؛ في نوفمبر-تشرين الثاني 1991؟
هل اهتديا لحل الدولتين؛ اللتين تعيشان بسلام جنبًا إلى جنب؟
لكن، واقع الحال، يشهد باستمرار معاناة الفلسطينيين مع دولة الاحتلال، صحيح أن حالة التوتر والصراع المسلح، قد خفت حدتهما ووتيرتهما، حيث يبدو أن المقاومة والاحتلال في هدنة مفتوحة؛ لاسيما في غزة؛ التي كانت مسرحا للمواجهات بين الفصائل والجيش الإسرائيلي.
لقد جرى إطلاق المفاوضات بين الفلسطينيين والاسرائليين مباشرة بعد حرب الخليج الثانية، أو حرب تحرير الكويت 17) يناير إلى 28 فبراير 1991)، وكانت بمثابة تعبير من القوى العظمى؛ لاسيما الولايات المتحدة الأميركية ؛ عن حرصها على استتباب الأمن والسلام في العالم، وفي الشرق الأوسط خاصة، وقد أثمرت هذه المفاوضات اتفاق أوسلو في 13 سبتمبر 1993، والذي منح الفلسطينيين حق إنشاء سلطتهم الوطنية على جزء من أراضي الضفة وأريحا، وعلى قطاع غزة الذي انسحب منه إسرائيل من جانب واحد بدون تفاهم مع الفلسطينيين بسبب وقوع القطاع تحت نفوذ حركة حماس.
غير أن إسرائيل في عهد شارون وسلفه نتانياهو، أجهزت على الاتفاق الثنائي برعاية أميركا وروسيا، وتم تجميده، وتوقيف المفاوضات الثنائية لاسيما بعد التقارب بين محمود عباس أبو مازن وحرك حماس.
لا اتصالات رسمية الآن ، بين السلطة الفلسطينية والاسرائليين، ومنذ مدة، بعد تخلي الوسيط التقليدي المقبول من لدن إسرائيل؛ أي الولايات المتحدة الأميركية، عن هذا الدور، لأن الرئيس أوباما وجد نفسه وإدارته، لاسيما خلال ولايته الثانية، في مواجه ساخنة مع معضلات عالمية كبيرة وخطيرة؛ مثل ملف النووي الايراني، وقضية التطرف الداعشي في سوريا والعراق، وحركة طالبان في أفغانستان وجارتها باكستان.
وقد حاولت فرنسا في عهد الرئيس الحالي؛ فرانسوا أولاند؛ القيام بوساطة بين الفلسطينيين والاسرائليين؛ حيث زار رئيس الوزراء الفرنسيّ مانويل فالس في 21 أيّار/مايو 2016 إسرائيل والأراضي الفلسطينيّة، في جولة دامت ثلاثة أيّام؛ لكن مبادرته باءت بالفشل بسبب الرفض الإسرائيلي.
إجمالا؛ إنها مساعي محتشمة، لا يمكنها أن تحجب حقيقة الدور المتخاذل للمنتظم الدولي؛ الذي يبدو أنه أصبح يقارب النزاعات والأزمات في البؤر المشتعلة في العالم، من منظور جديد؛ أي بحسب درجة خطورتها، ويولي الأولوية للمشكلات المطروحة، بحسب تأثيراتها العميقة والاستراتيجية على مصالح الدول الكبرى، ونفوذها التقليدي، وأمنها الداخلي والخارجي.
إن مشاهد الدمار والقتل الجماعي، وبرك الدماء النازفة يوميا، في العراق وسوريا خاصة، والتهديدات المتتالية التي يرسلها "تنظيم داعش"، كل ذلك، ساهم في تحوير مجال اهتمام العالم، والقُوى الكبرى خاصة، من القضايا التي ظلت معلقة وشائكة منذ تأسيس هيئة الأمم المتحدة، كالقضية الفلسطينية، إلى الخطر الجديد؛ التطرف الذي يمتزج فيه ما هو ديني بالعنف المسلح.
ولعل ما زاد تركيز العالم على هذه الظاهرة، هو انتقالها المريب من منطقة الميلاد والتأسيس؛ أي من العراق وسوريا، إلى الغرب عموما، وأوروبا خاصة، لاسيما بعد هجمات بروكسيل وبار يز.
لم يعد النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، أو الإسرائيلي العربي، بسبب الاحتلال اليهودي للأراضي الفلسطينية، ومدينة القدس خاصة، مثيرا لانتباه العالم الغربي؛ الذي أمسى مركزا جهوده كلها على محاربة تطرف تنظيم داعش في سوريا والعراق وليبيا، والذي امتدت عملياته إلى قلب أوروبا الغربية؛ كما أن اشتداد النزاعات المسلحة بليبيا وسوريا والعراق، والذي ساهم في تفاقم مشكلة هجرة المئات عبر شواطئ ليبيا وتركيا نحو أوروبا الغربية، فرض على أروربا أن تظل مهووسة بقضية الهجرة في المقام الأول، وما تطرحه أمامها من تحديات أمنية واجتماعية واقتصادية.
أما الولايات المتحدة الأميركية التي بدا رئيسها في ولايته الثانية خاصة، مهتما بملف إيران النووي، وبتدبير تورط بلاده في أفغانسان، وفي العراق، وبالتنظيمات التطرفية التي تشكل خطرا على أمن الولايات المتحدة الأميركية، فلم يعد متحمسا لإرسال وزير خارجيته لإسرائيل والسلطة الفلسطينية؛ من أجل تشجيع الطرفين هناك على التفاوض الذي أصبح مملا وغير ذي جدوى أمام التعنت الإسرائيلي.الذي أوصل الجميع للباب المسدود.
هذه بعض الانشغالات الكبرى والراهنة للغرب؛ ممثلا في أميركا وأوروبا، فماذا عن هواجس الدول العربية والإسلامية؟
إن الدول العربية والإسلامية، لاشك أنها حلقة صغيرة ضمن سلسلة العلاقات الدولية الكبيرة، والمنتظم الدولي، فلا يمكن لهذه الدول؛ بحكم عدم تمتعها بحق العضوية الدائمة في مجلس الأمن، مثل الدول الخمس كاملة العضوية، أن تمارس ضغطا في الساحة الدولية، وأن تملي أولوياتها على الأجندة العالمية، ولو كان لها هذا النفوذ، وتلك السلطة والقوة، لحلت القضية الفلسطينية التي عمرت ردحا طويلا من الزمن، وها هو الشعب الفلسطيني يعاني الأمرين منذ 1948 وإلى الآن.
إن الدول العربية والإسلامية نفسها؛ تعاني اليوم، الخطر التطرفي الذي انطلقت شرارته من سوريا والعراق.كما أن دول الخليج أصبحت أكثر تركيزا على تنامي النفوذ الإيراني المتزايد، والذي امتد من سوريا إلى اليمن، التي يشكل الحوثيون بها تهديدا كبيرا للأمن الاقليمي، لاسيما بالنسبة للسعودية، التي لها حدود برية يستغلها الحوثيون لتنفيذ هجمات مباغتة.
لقد رسمت الأحداث المتلاحقة والمتوالية على المنطقة العربية، للعرب أجندة جديدة طارئة ومستعجلة، وسلما مغايرا للأولويات؛ يتمثل في التوغل الإيراني في سوريا، وامتداده نحو لبنان التي لازالت بدون رئيس، واليمن التي تدعم إيران الحوثيين بها والبحرين التي تشهد مظاهرات من تنظيم الشيعة بمؤازرة إيرانية، ناهيك عن العراق.
لم تعد إسرائيل هي الخطر الأول اليوم، والعدو الاستراتيجي للعرب، لقد حلت مكانهما إيران، وتنظيم الدولة؛ الذي غدا قادرا على التوسع خارج موطن نشأته، وتفجير أماكن حساسة بالسعودية والكويت، فضلا عن قدرته الكبيرة على إثارة العصبية الطائفية من خلال استهداف المساجد الشيعية.
في ظل هذه الأجواء، ووسط هذا السياق الاستثنائي، لا يمكن للقضية الفلسطينية التي لازالت عالقة منذ أمد بعيد، أن تقفز إلى سلم الأحداث، وأن تشكل هاجسا للقوى العالمية المنشغلة بمحاربة داعش، لاسيما بعدما أصبحت الحرب ضدها عالمية، بعد انضمام روسيا إلى جانب الأسد.
كما أن استمرار الهدنة بين الفصائل الفلسطينية المقاومة وسلطة الاحتلال، عل الرغم من حصار إسرائيل لقطاع غزة، كل ذلك سيعزز الانطباع بأن القضية الفلسطينية لا تستحق التفكير الآن، لاسيما وراعي مبادرات السلام بين الفلسطينيين والاسرائليين، وأقصد الولايات المتحدة الأميركية ، منشغل هذه الأيام، وإلى غاية مطلع هذه السنة، بالانتخابات الرئاسية، لذا، يجب أن ننتظر نوع الإدارة التي ستفرزها تلك الانتخابات، وأجندة الرئيس الجديد في السياسة الدولية، ولا نحسب أن الحرب ضد التطرف ستنتهي قريبا، لاسيما وبؤر التوتر الكبرى في العالم؛ في سوريا والعراق، لا تزداد إلا اشتعالا.وهذا ما ينبئ بأن ليل الفلسطينيين القابعين تحت وطأة الاحتلال لن يكون قصيرا.