د. إدريس لكريني
تمتدُّ الهجرة كظاهرة إنسانية إلى عمق التاريخ، حيث ارتبطت بالتنقل من فضاء جغرافي إلى آخر بشكل فرد أو جماعي، لأسباب اجتماعية واقتصادية وسياسية وعلمية ودينية، وظل الهاجس من ورائها في كثير من الأحيان هو البحث عن حياة أفضل .
وفي مقابل هذه الدوافع الإنسانية للهجرة، اقترنت هذه الأخيرة أحياناً بمظاهر من العنف والهيمنة والتدمير، فالهجرة التي باشرها بعض الأفراد نحو أميركا الشمالية قبل بضعة قرون، ارتبطت بتدمير معالم الحضارات السابقة للسكان الأصليين وجلب العبيد من إفريقيا، كما ارتبطت بفرض الاحتلال وبسط السيطرة على خيرات الكثير من الشعوب في إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية .
رغم الإشكالات المختلفة التي أضحت تطرحها الهجرة، فهي تسهم في مسارات التنمية داخل الدول المستقبلة عبر الاستفادة من كفاءات وقدرات وسواعد في هذا الصدد، وكذلك الأمر بالنسبة للدول المصدرة التي تنتعش اقتصاداتها من التحويلات المالية المهمة للمهاجرين، علاوة على مساهمتها في امتصاص معضلة البطالة، والاستفادة من الخبرات والتجارب التي يكتسبها هؤلاء خارج بلدانهم والتي تستثمرها الكثير من الدول المصدرة لاحقاً .
أصبحت الهجرة في الوقت الحالي تعني الدول جميعًا، وتشير بعض التقارير الصادرة عن الأمم المتحدة إلى أن هناك ما يناهز 200 مليون شخص يعيشون خارج بلدانهم الأصلية، وذلك بنسبة تتجاوز 3% من سكان العالم، حيث تحتل ضمنها الهجرة السرية نسبة تكاد تصل إلى 15%، فيما يصل عدد المهاجرين طالبي الشغل نحو 50%.
ظلّ تنقل الأفراد من قطر إلى آخر حتى وقت قريب مطبوعاً بالسلاسة وندرة التعقيدات السياسية والإدارية، غير أن إقدام الدول المستقبلة خلال العقود الأربعة الأخيرة على سن تشريعات صارمة واتخاذ تدابير وإجراءات أمنية تحدّ من الظاهرة، من قبيل فرض التأشيرات وتكثيف المراقبة الأمنية عبر الحدود، أسهم في تصاعد حدّة الهجرة السّرية .
يطلق اسم المهاجر السّري على من تتوافر فيه صفات الدخول إلى دولة ما دون المرور عبر السبل القانونية وما يرتبط بها من تدابير وإجراءات، كما يشمل أيضا كل من دخل بسبل قانونية إلى البلد من دون القيام بتجديد هذه الإقامة بعد انتهاء مدتها، وكذلك الشأن بالنسبة للأشخاص الذين يقومون بأعمال وأنشطة مختلفة داخل حدود الدولة بصورة غير قانونية .
يطلق الكثير من الباحثين والمهتمين على هذا الصنف، الهجرة غير القانونية أو غير الشرعية لكونها تتم عبر سبل غير رسمية ومتجاوزة للقوانين الداخلية للدول، ولا يخلو هذا التوصيف من إشكالات، ذلك أنه يصطدم بالمواثيق والإعلانات الدولية التي تؤكد حرية التنقل، فالفقرة الثانية من المادة 13 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تشير إلى حرية الفرد في مغادرة أية بلد بما فيه بلده الأصلي والعودة إليه، في حين تنص الفقرة الأولى من المادة 14 من الإعلان ذاته على حق كل فرد في اللجوء إلى بلاد أخرى هرباً من الاضطهاد .
وإضافة إلى مختلف الاتفاقيات الدولية المبرمة لحماية المهاجرين، صادقت الأمم المتحدة في يوليو/تموز من عام 2003 على الاتفاقية الدولية لحماية الحقوق المختلفة للعمال المهاجرين وأفراد أسرهم بمن فيهم المهاجرون السرّيون .
ظلت الهجرة السرية تستهدف لعقود الدول المتقدمة، غير أن التدابير الصارمة التي اعتمدتها هذه الأخيرة في مواجهتها، سمحت ببروز نوع جديد من الهجرة، وهو الهجرة جنوب - جنوب، بعدما تحولت الكثير من دول العبور إلى دول لاستقبال واستقرار المهاجرين .
تشير التقارير والدراسات ذات الصلة بالموضوع، إلى أن الهجرة السرية تنتعش بشكل كبير بين المناطق القريبة جغرافياً، والتي تتميز بتباين كبير على المستوى الاقتصادي، كما هو الشأن بالنسبة للمغرب وإسبانيا، والولايات المتحدة الأمريكية والمكسيك . .
تزايدت حدّة الهجرة السرية عبر المتوسط في اتجاه أوروبا بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة، تحت وطأة مجموعة من العوامل، فعلاوة على الدوافع الاقتصادية والاجتماعية في علاقتها بتفشّي الفقر والبطالة وسوء الأوضاع التعليمية بمختلف البلدان الإفريقية، فقد أسهمت الصراعات السياسية والعسكرية التي عاشتها الكثير من البلدان الإفريقية في السنوات الأخيرة في تزايد حدة الظاهرة، ولا تخفى أيضاً تداعيات تحولات الحراك في عدد من دول المنطقة (تونس وليبيا ومصر وسوريا)، بسبب الارتباكات الأمنية والسياسية التي عرفتها هذه الأقطار والتي أسهمت في تنمي الظاهرة نتيجة ضعف مراقبة الحدود وتنامي المعضلات الاجتماعية .
وهكذا تحولت المنطقة المغاربية وبحكم موقعها الاستراتيجي إلى دول لاستقبال المهاجرين، بعد أن ظلت لسنوات مصدرا للهجرة فقط، وتنطبق هذه الحالة بشكل كبير على المغرب .
شكلت الهجرة السرية عبر المتوسط محوراً أساسياً ضمن خطابات واهتمامات دول الضفتين، بالنظر إلى تداعياتها على الجانبين، بل إن الموضوع ولأهميته القصوى ظلّ مخيماً على مجمل الاتفاقات والمشاورات التي تجري بين الجانبين .
إن العوامل المغذية للهجرة السرية متعددة ومتشابكة، فهناك عوامل نفسية تدفع الكثير من الشباب الذي يعاني الفقر والبطالة واليأس وانغلاق الآفاق . . إلى ربط الهجرة إلى الغرب وركوب مخاطرها بتحقيق الذات وتحسين الأوضاع الاجتماعية والمادية في ظرف وجيز، كما لا تخفى تأثيرات تحولات العولمة التي شهدها العالم خلال السنوات الأخيرة، في مستوى تطور وانفتاح وسائل الإعلام والاتصال، التي سمحت بالاطلاع على مستوى العيش داخل الكثير من الدول الجاذبة للهجرة، إضافة إلى تنامي التفاوت في المستوى المعيشي بين الأفراد داخل الدولة ذاتها أو بين دول مجاورة .
ويزيد من حدة هذه العوامل انهيار اقتصادات دول الساحل الإفريقي والصحراء رغم الثروات الطبيعية والبشرية التي تتمتع بها هذه المنطقة، علاوة على فشل السياسات الاجتماعية والاقتصادية في الدول المغاربية على مستوى تجاوز معضلة البطالة، وعدم انفتاح المؤسسات التعليمية على محيطها الاجتماعي، ما يسهم في تفريخ جيوش من العاطلين حاملي الشهادات .
إن التعاطي مع الظاهرة يفترض الموازنة بين متطلبات الاستقرار والأمن وفرض احترام القانون من جهة، واعتماد المقاربة الإنسانية في إطار احترام المعايير الدولية لحقوق الإنسان . كما يفرض الأمر مقاربتها بصورة شمولية تقف على العوامل التي تغذيها، بدل التركيز على البعد الأمني الذي أكدت الممارسة الميدانية قصوره .
وهنا تبرز أهمية التنسيق بين مختلف الفاعلين داخل الدولة، لبلورة استراتيجية كفيلة بالحدّ من معاناة المهاجرين وذلك من خلال تقديم الرعاية اللازمة لهم والسعي لإدماجهم . .
كما يتطلب الأمر أيضاً تعزيز الجهود الدولية والإقليمية في إطار الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة والمنظمات الإقليمية لتدبير مختلف الأزمات والصراعات التي تعيشها مختلف البلدان الإفريقية والمغاربية التي ينحدر منها المهاجرون والعمل على القيام بمشاريع اقتصادية واجتماعية في دول المصدر، تدعم سبل التنمية كسبيل لتشجيع الاستقرار في هذه البلدان الفقيرة .
وتتحمل دول الضفة الأوروبية من المتوسط مسؤولية كبرى في هذا الصدد، بالنظر إلى التداعيات السلبية التي خلفها التاريخ الاستعماري والتبعية السياسية والاقتصادية على أوضاع الدول الإفريقية بشكل عام، ولذلك فانخراطها في دعم مسلسل التنمية في الدول المصدرة هو ضرورة تمليها هذه المعطيات التاريخية والمحافظة على مصالحها أيضاً، ولا ينبغي النظر إليها كعمل خيري تجود به على هذه الدول .
تقارب الكثير من الدول الأوروبية الظاهرة من منظور أمني، وكثيراً ما تحمّل دول الضفة الجنوبية من المتوسط كما هو الشأن بالنسبة للمغرب والجزائر وتونس وليبيا مسؤولية مواجهتها، بما يكشف زيف الشعارات التي أطلقتها الكثير من الدول الغربية منذ أواخر السبعينات من القرن الماضي في علاقتها بالحوار والتعاون جنوب - جنوب .
ولذلك، يتطلب الأمر أيضاً بلورة تنسيق مغاربي على مستويات عدة لبلورة مداخل على قدر من النجاعة والفعالية بعيداً عن المقاربة الأحادية للتعامل مع الظاهرة، إضافة إلى التكتل في مواجهة الاتحاد الأوروبي بصورة ندية تدعم تجاوز المقاربة الأوروبية الكلاسيكية التي غالباً ما ترى في الدول المغاربية مجرد "شرطي" لحماية ضفتها الجنوبية من مختلف "المخاطر".