بقلم: محمد المنسي قنديل
لم يعد هناك جدوى من التحدث في السياسة، ربما التحدث في كرة القدم أجدى، فهذا هو عامها على مستوى العالم عامة، وفي مصر بشكل خاص، فقد تأهلنا لكأس العالم بعد سنوات طويلة من سوء الحظ، ومن المدهش أننا وصلنا هذه المرة بأضعف المنتخبات وأسوأ العروض، ورغم فرحة الجمهور المصري فهو يدرك أن منتخبه لن يصمد طويلا، فلا يوجد فيه إلا لاعب عالمي وحيد هو محمد صلاح، هو الذي يعرف كيف يجري ويمرر ويتمركز ويسجل الأهداف، أما بقية اللاعبين فلا يجيدون المهارات الأساسية، ولا يبدو أنهم يتدربون جيدا من أجل اكتسابها، وهم ليسوا موهوبين مثل معظم لاعبي العالم، فالموهبة نادرة، والذين يتمتعون بها يعدون على الأصابع.
ولكن المهارات كلها تأتي نتيجة للتدريب الجاد، لذا فإن ضعف اللاعب المصري وقصور همته عن اللاعب الأجنبي هو نقص التدريب، واللاعبون أكسل من أن يحاولوا اللحاق بمحمد صلاح، ذلك اللاعب قصير القامة والذي لا يقاس جسمانيا ببقية اللاعبين من حوله، فقد جاء من قرية صغيرة، ولا بد أنه كان يعاني من سوء التغذية، وكان يقفز بين أكثر من وسيلة مواصلات ليلحق بموعد التدريب، لكن عزيمته كانت قوية منذ أن كان طفلا صغيرا، وهي التي جعلته ندًّا لأعظم لاعبي العالم.
اللاعبون المصريين يفتقدون هذه العزيمة، رغم أنهم نجوم، ويتقاضون أجورا عالية بالنسبة لمستوى الأجور في مصر، ولا ينتجون عائدا، لا جماهير ولا تذاكر ولا إيرادات، اللهم إلا عائد البث التليفزيوني، وبعض الرعاة والإعانات الحكومية، ولا أدري كيف تدار منظومة بهذه الضخامة بهذا العائد القليل، ولكنها تشبه كل شركات القطاع العام التي تبرع فقط في تحقيق الخسائر.
المنتخب المصري سيئ، لأنه نتاج مصنع سيئ هو الدوري العام، مصنع لا يجيد صنع الرجال رغم أن هذه مهمته الوحيدة، فالمدربون فيه هواة لا يعرفون أهمية تجديد المعرفة، والأندية غير جماهيرية، واللاعبون ليس لديهم طموح، وهذه مأساة الكرة في مصر، فالمدربون في مصر مجموعة محدودة، يدورون بين الأندية، يحملون خبرتهم المتواضعة، وأساليبهم القديمة التي تعودوا عليها منذ أن كانوا لاعبين، قليل منهم هم الذين قرروا أن يذهبوا إلى أوروبا ليتعلموا الأساليب الحديثة، وأن يعودوا بأي شهادة ولو صغيرة، شيء ما يؤهلهم للتدريب، لذا فهم لا يصنعون لاعبين ماهرين ولكنهم يفضلون شراء لاعبين أفارقة جاهزين، يحصلون بهم على انتصارات مزيفة، لا يوجد مدرب مصري بمن فيهم مدربو الأهلي والزمالك لهم القدرة على صنع اللاعبين المهرة، كلهم يتبعون المثل القائل شراء العبد ولا تربيته.
نحن في حاجة ماسة إلى جيل جديد من المدربين، أصغر سنا، يعرفون اللغات الأجنبية ولهم القدرة على التعلم وعلى فهم المباريات برؤية نقدية، عشرات المحللين يظهرون على شاشات التليفزيون كل يوم ويأخذون في الثرثرة حول كرة القدم، ولا يقدمون شيئا حقيقيا من أجل تطويرها، يمتدحون المدربين ويحاولون إقناعنا بأن ما نشاهده هو مباريات فيها جهد وفكر، بينما هي تخلو من كل شيء.
الدوري العام قد أصبح مطية لكل من يريد أن يركب، أي ناد يمكنه الانضمام إليه، ورغم صرخات الذين يطالبون بعودة الجماهير، فمعظم الأندية ليس لها جماهير، لا أحد يأبه بها سواء فازت أو انهزمت، كلها نشأت بطريقة غير صحيحة من أجل إرضاء بضعة أفراد وليس من أجل قطاع من الناس. يمكن تقسيم أندية الدوري إلى ثلاثة أنواع: الأندية الشعبية العريقة وتلك التي تنتمي للمدن، في الزمن القديم كان الدوري المصري هو تعبير عن الخريطة المصرية، يحمل أسماء مدنها العزيزة على القلب، فرق تحمل أسماء دمياط والمنصورة والسويس وبني سويف وغيرها، أسماء مليئة بالعراقة والحنين لا يملك أي إنسان إلا أن ينتمي إليها، كل واحد ينتمي إلى مدينته كما في الدوري الإنجليزي أو الإسباني، أو أي دوري في بلد عاقل، ولكن في مصر تحول الدوري إلى أسماء غامضة لا تنتمي لأحد.
أما النوع الثاني فهو الفرق التي تنتمي للشركات، وقديما كان لها مسار آخر هو دوري الشركات، أضعف مستوى وأقل شهرة، ولكن هذا الدوري زحف على الدوري العام واحتله وأصابه بالضعف وشوه خريطة مصر التي كان يعبر عنها، شركات البترول مثلا تلعب بفريقين دفعة واحدة، لا أحد يعرف الفرق بينهما، ولا يوجد من يشجعهما إلا بعض المديرين، وهم يمثلون شركات خاسرة، تستورد النفط بدلا من أن تنتجه، وينفقون ببذخ من المال العام الذي يخصنا جميعا، وبدلا من أن يتم إنفاق ميزانية الرياضة على تحسين الألعاب ورعاية أبناء العاملين ينفقونها على المحترفين الأفارقة، ولا أدري من سمح لهم بهذا السفه، فهم ليسوا بحاجة للمنافسة أو الدعاية لأنهم يتحكمون في سلعة أساسية، ويستنزفون الأموال في رواتب مئات المديرين في عشرات الشركات التي لا تنتج شيئا، واحدة من هذه الشركات موطنها في السويس، فلماذا لا تسمي فريقها باسم هذه المدينة الباسلة، وتستخدم قمصان اللاعبين لتطبع علامتها عليها، وتضع إعلاناتها في الاستاد الخاص بهم وتنفق نقودها في تنمية أشبالهم، ساعتها يتوجه المال العام في مساره الصحيح، ويصبح لذلك النادي المجرد من الأهلية جماهير شعبية حقيقية، الأمر في حاجة إلى قرار ينقذ المال العام من هذا الإهدار.
الأمر ينطبق على فرق أخرى، ليست في حاجة إلى أن تطرح نفسها علينا بوجهها الصريح، الشركة التي تعمل في إدارة أموال البورصة، وهي لا تقدم عملا إنتاجيا، وليس لها أي دور في التنمية الحقيقية، ولكنها تضارب في أصول موجودة بالفعل، ولا تدفع أي ضرائب حتى الآن، وربما تقدم فريق الكرة لتبيض به وجهها، إنها تأخذ من مدينة الفيوم موطنا لها، فلماذا لا تضم فريقها وإمكانياتها إلى نادي الفيوم الفقير؟ لما لا تأخذه ليكون فريقها الرسمي وتلصق اسمها على قمصانه، وسوف يشجعها كل أهالي المدينة؟ ألا يكون هذا مرضيا لمجلس إدارتها؟ وتدخل القوات المسلحة بفرق عديدة، تهبط واحدة لتصعد أخرى، وهي تلعب اللعبة نفسها، تستقدم المحترفين وتنفق ميزانية كبيرة على اللاعبين الأفارقة، وتعطي الانطباع أننا مجتمع يعيش تحت ظل العسكريين، الصوت المدني فيه خافت، ويزيد من سوء الأمر أيضا تدخل الشرطة بفرقها، وإصرارها على الوجود في مسابقة لا تخصها ولا أدري لماذا لا تتبارى هذه الفرق العسكرية مع بعضها وبعض وتترك مجتمعنا المدني بعيدا عن تحكمها؟ يبقى النوع الثالث من الأندية، تلك التي يملكها أفراد، وهم يعتبرونها تعبيرا عن نجاحهم في سوق الأعمال ويتخذونها كنوع من الوجاهة الاجتماعية، هناك من أعلن أن هذا نوع من الاستثمار، ولكن من المؤكد أن البعض الآخر يأخذون هذه الفرق وسيلة لتبييض الأموال، وهم أخطر الأنواع، ينفقون بسخاء ولا ينتظرون عائدا، ولن يتحقق لهم أي عائد ولكن كرة القدم هي غطاء جيد لكل أنواع التجارة غير المشروعة، على أجهزة الرقابة أن تنتبه لملاك هذه الفرق وتراقب مواردهم المالية ولا تنخدع بالقمصان الملونة التي تجري على العشب الأخضر.