توقيت القاهرة المحلي 14:42:22 آخر تحديث
  مصر اليوم -

نجيب محفوظ غوّاص في بحر الواقع

  مصر اليوم -

نجيب محفوظ غوّاص في بحر الواقع

محمد أبوالفتوح

"إن قهر النفس أول الطريق لكل صاحب مشروع كبير"                                                                       نجيب محفوظ الحارة المصرية.. تلك التركيبة العبقرية.. الجامعة للمتناقضات.. الآسرة للروح.. المستحوذة على الحواس، تلك الحالة الخاصة الفريدة في العالم بخصوصية زمانها و مكانها، أبت أن تستسلم لرياح التغيير لفترة كبيرة، و حين شعرت أنها مندثرة لا محالة، قررت أن تخلِّد نفسها ؛ فأنجبت من يماثلها في العبقرية حتى يقوم بتأريخها في أكثر أشكال التأريخ جمالا.. الأدب، إنه عاشق المشربيات و الفتوات و التكايا و المقاهي.. إنه الفاني في الحسين و الجمالية و العباسية و السيدة زينب.. إنه من سمح للعالم أن ينهل من الروح المصريَّة بروائح عطارتها و بديع معمارها و تمايل متصوفيها، إنه أديب نوبل.. نجيب محفوظ. شهد العام 1911 ولادة أديبنا العظيم نجيب محفوظ، في حي الجمالية بالقاهرة، لأب محب للسياسة غير ميَّال للقراءة، و أم تتمتع بحرية نسبية بالنسبة لنساء ذلك العصر ؛ حيث كانت دائمة الذهاب إلى المتحف المصري مصطحبة طفلها نجيب معها، و كانت تجلس بالساعات داخل غرفة المومياوات، فكبر أديبا محبا للتاريخ الفرعوني حبا شديدا، حتى أنه قام بدراسته كاملا دراسة المتخصص. في الثانية عشرة إنتقل محفوظ مع أهله إلى حي العباسية، و من هناك بدأت زياراته لحي الحسين الذي عشقه عشقا شديدا، فكان دائم التردد عليه و السهر على مقاهيه، خصوصا في شهر رمضان حيث كانت تمتد السهرة إلى فجر اليوم التالي. في أحد الأيام رأى محفوظ أحد أصدقائه يقرأ رواية بوليسية فاستعارها منه، و استمتع بها للغاية، فانهال على باقي روايات تلك السلسة حتى أتمها ثم أخذ في البحث عن سلاسل أخرى، و بعد أن يقرأ كل رواية كان يعيد كتابتها مع تعديلات بسيطة، ثم يكتب على الغلاف، تأليف : نجيب محفوظ. بعد ذلك اتجه إلى قراءة المفكرين أمثال طه حسين و العقاد، فما كان منه إلا أن فُتن بالفلسفة، و كانت هذه المرحلة هي بداية صراعه الداخلي بين الفلسفة المحترمة جدا في الحياة الأدبية، و القصة التي كانت غير محترمة بالقدر الكافي في ذلك الوقت، حتى أنه قرر دخول كلية الآداب قسم الفلسفة في مفاجأة هزت كل من حوله، و خصوصا مع تفوقه الشديد، أراد محفوظ أن يدخل الآداب ليجد الإجابة على سؤال واحد.. ما هو سر الوجود ؟، كان يعتقد أنه كما يتعلم الطب طالب الطب، يتعلم سر الوجود طالب الفلسفة. لم ينتهي الصراع بين الأدب و الفلسفة بدخوله كلية الآداب، بل على العكس تماما ؛ إزداد شدة، إلى أن وصل للسنة الأخيرة له بالجامعة، حينها أدرك ميله الحاد للأدب ؛ فحسم الصراع لصالحه عام 1936. لم تكن هذه النقطة في خط حياة أديبنا هي نقطة الراحة، بل كانت نقطة التحول نحو تعب جديد، كان يشعر أن الفلسفة قد أضاعت الكثير من وقته، فهو الآن في الخامسة و العشرين، و لم يبدأ حتى في قراءة عيون الأدب المعروفة، لكنه لم يستسلم قط، فشمَّر عن ساعدي الجد و الاجتهاد، الوظيفة صباحا، و القراءة و الكتابة باقي اليوم، كان يسير على غير هدى، فلم يكن يعلم من أين يبدأ، حتى اهتدى إلى كتاب يؤرخ للأدب العالمي حتى عام 1930، فتعلم الإنجليزية ثم الفرنسية ليقرأ عيون الأدب العالمي في لغتها الأصلية مستعينا بهذا الكتاب، قرأ الحرب و السلام لتولستوي، و الجريمة و العقاب لدستويفسكي، كما قرأ لتشيكوف و موباسان و كافكا و بروست و جويس و شكسبير و يوجين أونيل و ابسن و ملفيل و حافظ الشيرازي و طاغور، هذا إلى جانب بعض كتب التراث المهمة التي كان قد درسها في المرحلة الثانوية كالأمالي لأبي علي القالي، و الكامل للمبرد، كما كان شغوفا بالاطلاع على الكتب العلمية التي تقوم بتبسيط النظريات و الحقائق شغفا كاد أن يزيد في بعض الأحيان عن شغفه بقراءة الأدب. لم يكن للرواية وجودا يذكر في مصر و لا في العالم العربي وقتها، لم تظهر إلا بعض المحاولات المنفردة هنا و هناك ؛ فكانت هناك رواية زينب لمحمد حسين هيكل و هي كما يرى محفوظ رواية عادية جدا، و رواية لطه حسين و أخرى للعقاد لكنهما بالأصل مفكرين لا روائيين، و عودة الروح لتوفيق الحكيم التي يراها أقرب للعمل المسرحي، و كانت المدرسة الواقعية في أوربا قد قاربت الاندثار، بل و تلقى أشد النقد من أصحاب المدرسة الجديدة في الكتابة.. تيار الوعي و اللاوعي، لكن أديبنا لم ينسق وراء ذلك، بل كان شديد الموضوعية و الصدق مع الذات، و نورد هنا بعض أقوال أديبنا العظيم تلخص فلسفته في الكتابة علها تكون نبراسا للأدباء الشباب، يقول نجيب محفوظ : - كيف أغوص إلى واقع لم يوصف في ظاهره، و لم تُرصد علاقاته، … الغوص إلى الداخل يبدو منطقيا مع بطل جويس لأنه منطو و منغلق، المهم أن يدرك الكاتب الأسلوب المناسب للتعبير عن موضوعه و عن نفسه. - كنت أتصور أن هناك رواية صح، و رواية غير صح، الآن.. تغيرت النظرية، الرواية الصحيحة هي النابعة من نغمة داخلية، فلا أنا أقلد المقامة، و لا أقلد جويس. - من أغرب الأسئلة التي أسمعها، واحد يسأل ” إنت عايز تقول إيه في القصة دي ؟ ”، طيب ما أنا لو عاوز أقول حاجه معينه أقولها في جملة أو مقالة، و خلاص. - عندما أكتب لا أعبأ بشيء. بدأ نجيب محفوظ مشواره الأدبي بنشر القصص القصيرة و المقالات في المجلات المختلفة، ثم بدأ نتاجه الروائي بثلاث روايات تاريخية عن مصر القديمة و هي على التوالي : عبث الأقدار، رادوبيس، كفاح طيبة، في إطار مشروع لكتابة تاريخ مصر لكنه توقف بعد ذلك و أعاد تقييم مشروعه الإبداعي، لأنه شعر أن التاريخ لم يعد كافيا كوعاء يحمل ما يريد قوله، فكتب خان الخليلي، و أتبعها بالقاهرة الجديدة، ثم توالت أعماله التي وصل عددها إلى 38 رواية و 13 مجموعة قصصية، استطاعت أن تصور التاريخ الاجتماعي والسياسي والاقتصادي لمصر خلال القرن الماضي، بل و نقلته للعالم أجمع حيث تمت ترجمتها إلى زهاء 33 لغة، هذا بالإضافة إلى تسجيلها بمكتبة الكونجرس الأمريكي باعتباره أحد الكتاب البارزين في العالم، و مع كل هذا الكم الكبير من الإبداع السردي تظل أقرب أعماله إلى قلبه هي : الثلاثية، و الحرافيش، و أولاد حارتنا، و حكايات حارتنا. كان نجيب محفوظ قد حصل قبل عام 1988 على العديد من الجوائز القيمة كجائزة الدولة التشجيعية في الآداب عام 1957، و وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى عام 1962، و جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1968، و وسام الجمهورية من الدرجة الأولى عام 1969، لكن هذا العام – 1988 – جاء ليزف معه بشرى عظيمة لمصر و للعالم العربي بل و لدول العالم الثالث بأجمعه ؛ بشرى تكليل مجهود الأديب المصري العربي نجيب محفوظ بحصوله على أكبر و أعظم جائزة أدبية في العالم.. جائزة نوبل. وكم كان أديبنا الكبير نجيب محفوظ –  الذي رحل عنا عام 2006 – عظيمًا حين كتب خطاب نوبل الذي ألقاه عنه الأديب محمد سلماوي بالسويد، هذا الخطاب الذي هو علامة على إنكار الذات و التمسك بالهم العام و القضايا الوطنية في أكثر اللحظات التي تغري الإنسان بالنرجسية و الفخر بالنفس، لم يتحدث عن نفسه باعتباره الأديب الكبير، بل اتخذ من ثقافته العربية الإسلامية بابا ليُعرِّف المجتمع الغربي بهما، أيضا تحدث عن القضية الفلسطينية و الانتفاضة في وقت كان إعلام العالم يصور للمواطن الغربي أنها إرهابًا و افتراء

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

نجيب محفوظ غوّاص في بحر الواقع نجيب محفوظ غوّاص في بحر الواقع



GMT 15:32 2024 الثلاثاء ,30 إبريل / نيسان

تحديات تحولات الكتابة للطفل في العصر الرقمي

GMT 15:22 2023 الأربعاء ,23 آب / أغسطس

سأغتال القصيد

GMT 11:37 2024 الثلاثاء ,23 كانون الثاني / يناير

البشر تصبح كالخرفان في مجتمعاتنا التي يحرّم فيها التفكر

GMT 12:46 2023 السبت ,29 تموز / يوليو

ضفضة_مؤقتة

GMT 12:57 2023 الأربعاء ,12 تموز / يوليو

لكى تعرفَ الزهورَ كُن زهرةً

GMT 16:19 2023 الإثنين ,17 إبريل / نيسان

فلسطين بين رمضان والفصح المجيد

GMT 12:09 2023 الأحد ,22 كانون الثاني / يناير

مجانية الالقاب على جسر المجاملة أهدر قدسية الكلمة

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 04:08 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

أوستن يبحث مع نظيره الإسرائيلي الأحداث في سوريا

GMT 10:04 2024 الأربعاء ,11 كانون الأول / ديسمبر

بلينكن يطالب بتأمين أي مخزونات للأسلحة الكيميائية في سوريا

GMT 00:03 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

حكيمي علي رأس المرشحين للفوز بجائزة أفضل لاعب في أفريقيا

GMT 05:32 2024 الخميس ,05 كانون الأول / ديسمبر

العملة المشفرة بتكوين تسجل مئة ألف دولار للمرة الأولى

GMT 15:09 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

الحكومة المصرية تمنح أموالاً "كاش" لملايين المواطنين

GMT 17:19 2021 الثلاثاء ,17 آب / أغسطس

حكم صيام الأطفال يوم عاشوراء
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon