توقيت القاهرة المحلي 20:36:25 آخر تحديث
  مصر اليوم -

صفاقس وتجديد الفكر

  مصر اليوم -

صفاقس وتجديد الفكر

عبدالحسين شعبان

 كان الإعلان عن اختيار صفاقس المدينة التونسية الثانية (تبعد نحو 300 كم عن مدينة تونس) عاصمة الثقافة العربية حدثاً مهمّاً، ليس على صعيد تونس فحسب، بل على الصعيد العربي أيضاً، لما تتميّز به المدينة من فاعلية ثقافية وحيوية اجتماعية واقتصادية.
 وقد تسنّى لي زيارة المدينة مرّتين، الأولى بُعيد ربيع الياسمين، والثانية بتنظيم لقاء لي مع نخبة متميّزة من المثقفين والأكاديميين والأدباء الصفاقسيين، بصحبة الأكاديمي والمثقف الدكتور خالد شوكات.
 واكتشفتُ المدينة وعوالمها ومساحات التواصل والتجاذب بينها وبين مدن أخرى، وقد يكون التبادل التجاري والثقافي أحد وجوه تلك العلاقة. ولا أذيع سرّاً إذا قلتُ إنني استمتعت واستفدت من أجواء اللّقاء الذي خصّص لمناقشة  تجديد الفكر العربي المعاصر، مثلما في كل مرة كنت أنبهر بالغابات الشاسعة لأشجار الزيتون، التي قلت عنها: إنها بحر بلا ضفاف، في كتاب نشرته يؤرّخ للثورة التونسية بعنوان: "الشّعب يريد: تأمّلات فكرية في الربيع العربي". 
 أتفهّم حجم الانفجار الذي حصل بالبلاد، لكن الدولة على الرغم من بعض مظاهر الفوضى والعنف بعد الثورة، حافظت على نفسها وعلى هيبتها، وإذا كانت سفينتها لم ترسُ بعد، لأن رياحاً مختلفة تتجاذبها، إلاّ أنها تتّجه نحو الشاطئ، وبالرغم من المنعرجات والتحدّيات التي واجهتها التجربة، لكنها هي الأنجح على المستوى العربي حتى الآن، ويتوقف على استمرارها وتقدّمها ارتفاع منسوب التغيير في العالم العربي، خصوصاً إذا ما ترسّخ عبر حكم القانون وفصل السلطات واستقلال القضاء وتعزيز الحرّيات وحقوق الإنسان.
 كان اللقاء قد طرح سؤالاً ظلَّ يتكرّر منذ عهد النهضة قبل قرن ونيّف من الزمان وإلى الآن، ونعني به مسألة التجديد والمساحات المتاحة للمشترك الجامع بين التيارات الفكرية، وأول الفلسفة سؤال كما يُقال: ما الفكر وكيف يمكننا تجديده؟ ثم ما هي العقبات التي تعترض ذلك؟ وماذا نريد؟ وما هي التحدّيات التي تواجهنا؟
 وقبل هذا وذاك، هل هناك فكر عربي معاصر واحد وموحّد، أم أننا أمام حزمة من التيارات الفكرية المتضاربة والمتقاربة، المتشدّدة والمرنة، الشمولية والليبرالية، التقدمية والرجعية، اليسارية واليمينية؟
 وهذه التوجّهات والمرجعيات بعضها ينتمي إلى التيار الإسلامي، وهذا هو الآخر ينقسم إلى إسلامي متنوّر وإسلامي محافظ وإسلامي إرهابي "متأسلم"، حسب بعض التصنيفات، فضلاً عن الفيروس الطائفي الذي ضرب بعض الجماعات الإسلامية، فهذا إسلام سني وذاك إسلام شيعي، وهناك "إسلام" تكفيري "داعشي"، وأحياناً تلتقي بعض هذه الفِرَق في إطار الإسلاملوجيا والمقصود "الإسلام ضدّ الإسلام" بتقديم قراءات خاطئة وتفسيرات مشوّهة للإسلام، كقيم إنسانية بما يعاكسها، ولكن باسم الإسلام، أفلا تقوم "داعش" بالذبح والقتل والتفجير والتفخيخ والعمليات الانتحارية باسم الله وترفع مصحفه المقدّس فوق الرؤوس؟
 والأمر ينطبق كذلك على التيار القومي العربي، فبعضه لا يزال متمسكاً بلغته الخشبية التي عفا عليها الزمن، ولا يزال متشبثاً حتى بارتكابات أنظمته وجرائمها، والفريق الآخر حتى وإن حاول التجديد، لكنه لم يمتلك أدواته وظلّ محافظاً وينتمي في الغالب إلى الماضي. وبقيت قراءته للحاضر مشوّشة واختزالية. وباستثناءات محدودة، لم يتمكن التيار القومي العربي تقديم صورة حضارية للعروبة كرابط جامع، فضلاً عن الأنظمة التي حكمت باسمه، ولم تكن سوى أنظمة استبداد وتسلّط، وعلى أقل تقدير معادية للديمقراطية، وقدّمت مفهوماً مشوّهاً لها، وفي الممارسة كانت بالضد منها.
 أما التيار الاشتراكي، الماركسي، واليساري عموماً، فقد نضب خزينه الفكري بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وأخذ بالتشظّي إلى حدود كبيرة، ناهيك عن تخبّطه وتحالفاته غير المفهومة، ولم يتمكّن من تقديم قراءة جديدة للواقع، وفي حين أنه ترك المنهج الجدلي، إلاّ أنه تمسّك ببعض النّصوص والشّعارات الأقرب إلى الأدعية والتعاويذ.
 وقد لعبت الاتّكالية الفكرية والكسل النظري دوراً كبيراً فيما وصل إليه، خصوصاً بعد أن ضاعت بوصلته، وقاده الفشل والأزمات المتكرّرة إلى الاستمرار في تبعيته وذيليته للعديد من القوى القومية والإسلامية، وعلى أقل تقدير تاه بعضه، فلم يعدّ يفرّق بين التحرير والاحتلال، وبين معاهدة استرقاقية ومعاهدة تعاون وصداقة، وأصبحت الإمبريالية "المجتمع الدولي"، تحت ذرائع عدم الانعزال، والانفتاح بدلاً من الانغلاق.
 وعلى الرغم من عدم وجود تيار ليبرالي ديمقراطي واضح المعالم، مثل التيارات الأخرى بسبب الانقلابات العسكرية وهيمنة الفكر الشمولي، فإن من أراد العمل باسمه في بعض البلدان العربية، وإنْ كان ينتمي إليه بالاسم، لكنه في الواقع كان جزءًا من التيار النيوليبرالي، وبرّر الاستتباع والقابلية على الاستعمار حسب مالك بن نبي، بالعولمة وشروطها، في حين كان التيار الليبرالي في السابق يدعو إلى إعلاء شأن الفرد والفردانية، والتمسّك بالحرّية كقيمة إنسانية عليا.
 ويبدو التناقض شديداً داخل كل تيار من التيارات التي وردت الإشارة إليها، فالتيار الإسلامي لا يزال يصارع اتّجاهين رئيسيين، الأوّل: موغل في التناقض بين التقليد والحداثة، وبين الأصالة والمعاصرة، والثّاني: تتنازعه الدعوة للدولة الإ...

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

صفاقس وتجديد الفكر صفاقس وتجديد الفكر



GMT 15:32 2024 الثلاثاء ,30 إبريل / نيسان

تحديات تحولات الكتابة للطفل في العصر الرقمي

GMT 15:22 2023 الأربعاء ,23 آب / أغسطس

سأغتال القصيد

GMT 11:37 2024 الثلاثاء ,23 كانون الثاني / يناير

البشر تصبح كالخرفان في مجتمعاتنا التي يحرّم فيها التفكر

GMT 12:46 2023 السبت ,29 تموز / يوليو

ضفضة_مؤقتة

GMT 12:57 2023 الأربعاء ,12 تموز / يوليو

لكى تعرفَ الزهورَ كُن زهرةً

GMT 16:19 2023 الإثنين ,17 إبريل / نيسان

فلسطين بين رمضان والفصح المجيد

GMT 12:09 2023 الأحد ,22 كانون الثاني / يناير

مجانية الالقاب على جسر المجاملة أهدر قدسية الكلمة

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:22 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
  مصر اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 09:31 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
  مصر اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 10:24 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

اليونان تمزج بين الحضارة العريقة والجمال الطبيعي الآسر

GMT 09:20 2024 الخميس ,08 شباط / فبراير

نصائح لعرض المنحوتات الفنية في المنزل

GMT 04:36 2024 الإثنين ,14 تشرين الأول / أكتوبر

فئات مسموح لها بزيارة المتحف المصري الكبير مجانا

GMT 15:44 2021 الجمعة ,22 تشرين الأول / أكتوبر

تفاصيل حوار باتريس كارتيرون مع رزاق سيسيه في الزمالك

GMT 06:24 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

رينو 5 الكهربائية الجديدة تظهر أثناء اختبارها
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon