أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب الأسبوع الماضي انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني. وكان ترامب أعلن عن نيته الانسحاب أثناء حملته الانتخابية، إذ وصف الاتفاق الذي تم التوصل إليه في مجلس الأمن في عهد الرئيس باراك أوباما عام 2015، بأنه «أسوأ اتفاق تم التفاوض عليه». وأكد تعهده الانسحاب عند تخفيفه العقوبات في كانون الثاني (يناير) الماضي، وتصريحه عندئذ بأن هذه هي المرة الأخيرة التي سيمدد فيها العقوبات إذا لم توافق الدول الأوروبية الثلاث الموقعة على الاتفاق (ألمانيا وفرنسا وبريطانيا) على المطالب الأميركية للتعديلات والتغييرات الآتية: إعادة النظر في برامج الصناعة النووية الإيرانية بعد انتهاء المدة المحددة لها في 2025، وتقليص برنامج تطوير الصواريخ الباليستية إذ يصل مدى بعضها الى القارة الأوروبية، ووضع حد لتوسع النفوذ السياسي الإيراني في الدول المجاورة.
لم توافق الدول الأوروبية الثلاث على مقترحات ترامب، كما حذرت من الأخطار الناجمة عن الانسحاب الأميركي. وأعلنت إيران أنها ستواجه قرار الانسحاب بتبنيها خطوات «ستفاجئ» الولايات المتحدة. ويحاول وزراء الخارجية الأوروبيون حماية شركاتهم من العقوبات. كما أن فحوى السياسة الأوروبية، كما عبر عنها زعماء الدول الثلاث، هي الاستمرار باعتبار أن الاتفاق لا يزال قائماً ونافذ المفعول، على رغم الانسحاب الأميركي. وصرح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بأنه تشاور مع وزير خارجية الصين (وقد وقعت الدولتان الاتفاق) واتفقا على وقف المحاولات الأميركية لنسفه.
متى سيبدأ تنفيذ الاتفاق؟ هناك فترة سماح تتراوح بين 90 و180 يوماً حيث تستطيع الشركات الاستمرار بتحميل النفط الإيراني. لكن، يطلب منها خلال هذه الفترة خفض مشترياتها من النفط الإيراني، وإلغاء بعض العقود المستقبلية مع طهران. هذا سيعني خفض الصادرات الإيرانية خلال هذه المرحلة الأولية ما بين 500 ألف برميل يومياً و700 ألف. وستبدأ العقوبات الشاملة على الصادرات في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، إضافة الى مقاطعة شاملة من قبل الشركات العالمية لتطوير الحقول وتزويد المعدات الصناعية للقطاع البترولي، ما سيؤدي إلى خفض الطاقة الإنتاجية.
لا يتوقع أن تشارك الصين في المقاطعة هذه المرة، كما كان الأمر خلال المقاطعة السابقة، خصوصاً لاحتمال نشوب حرب تجارية بينها وبين الولايات المتحدة أشعلها الرئيس ترامب أخيراً. وهناك احتمال أيضاً أن لا تشارك الهند بدورها في المقاطعة. ويذكر أن هاتين الدولتين الأسيويتين تستوردان أكثر من مليون برميل يومياً من النفط الإيراني، في حين يبلغ مجمل استيراد اليابان وكوريا الجنوبية نحو 20 في المئة من الصادرات النفطية الإيرانية. وتستورد الدول الأوروبية نحو 330 ألف برميل يومياً. وتستطيع هذه الدول الحصول على الإمدادات النفطية من الدول الخليجية ذات طاقات إنتاجية فائضة، تعوض النقص في الإمدادات الإيرانية، ومن ثم المحافظة على استقرار ميزان العرض والطلب العالمي.
تكمن أهمية الدول الأوروبية في المقاطعة بما توفره في مجالي الشحن البحري والتأمين. ويتوقع في ظل السياسات الأوروبية الحالية التي تصر على الاستمرار في الاتفاق، في حال عدم تسريع طهران برنامجها النووي أو توسيع برامج الصواريخ الباليستية، وتحاول هذه السياسة الأوروبية التأثير على الموقف الإيراني من خلال استمرارية الاتفاق، وعلى الموقف الأميركي من أجل تعديله. لكن من غير الواضح حتى الآن إذا كانت الدول الأوروبية ستقاطع الصادرات النفطية الإيرانية. في الوقت ذاته، يتوقع أن يشرع الاتحاد الأوروبي القوانين التي تحمي شركاته من المقاطعة الأميركية.
وكي تؤثر المقاطعة على الاقتصاد الإيراني، يتوجب وقف تصدير نحو مليون برميل يومياً. وتستطيع إدارة ترامب حجب هذا الحجم من الصادرات من خلال النظام المالي والتأمين. كما أن استخدام الولايات المتحدة نفوذها في معاقبة الشركات التي تخالف العقوبات التي فرضتها، برهن على نجاحه في التجارب السابقة. فالتعامل في تجارة وصناعة النفط يتم بالدولار. ويتوجب التعامل مع المعاملات الدولارية من خلال نيويورك. كما أن معظم الشركات العالمية الكبرى مسجلة في بورصة نيويورك، ما يجعل من الصعب على الشركات تفادي القوانين الأميركية. فمخالفتهم لها يعرضهم للملاحقة القانونية والغرامات الضخمة.
يتوقع أن ترتفع أسعار النفط كرد فعل على قرارات المقاطعة الجديدة. كما يتوقع أن تزداد المضاربات في الأسواق في ظل هذه القرارات وفي ظل الأخطار الجيوسياسية الناجمة عن الخلاف الأميركي-الإيراني في الشرق الأوسط، وتصاعد إمكان نشوب صراع عسكري إيراني- إسرائيلي على جبهات متعددة. أما حجم الزيادة المتوقعة في الأسعار فهو أمر من قبيل التكهنات حالياً، خصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار أن المقاطعة حتى تشرين الثاني المقبل ستكون محدودة نسبياً. كما أن هناك طاقة إنتاجية فائضة ممكن ضخها في الأسواق إذا اقتضت الضرورة.
يعتمد نجاح المقاطعة إذاً على حجب نحو مليون برميل يومياً من الصادرات للضغط على الاقتصاد الإيراني، الذي يعاني أزمات صعبة متمثلة بتدهور قيمة الريال وازدياد التضخم نحو 40 في المئة سنوياً. وهناك أيضاً قلق رجال الصناعة والتجار الإيرانيين من تقلص التبادل التجاري معهم وتوقف الاستثمارات الأجنبية في البلد كلياً، بعدما بدأت تتشجع في شكل خجول في التعامل مع إيران.
هناك استثمارات نفطية ستتأثر سلباً بقوانين المقاطعة الجديدة. فقد وقعت شركة «توتال» بالشراكة مع «شركة البترول الصينية الوطنية» عقداً بقيمة 4.8 بليون دولار لتطوير المرحلة الحادية عشرة من حقل «بارس» الغازي البحري. واستثمرت نحو 90 مليون دولار في المشروع حتى الآن. وستحاول «توتال» والحكومة الفرنسية إيجاد حل استثنائي لأضخم استثمار أجنبي منذ توقيع الاتفاق النووي.
وارتفعت الأسعار خلال الأيام الثلاثة الأولى بعد إعلان الانسحاب، من 74 إلى 77 دولاراً للبرميل. ومن المحتمل ارتفاعها في الربع الأخير من السنة، عندما سيحجب نحو مليون برميل يومياً من الصادرات الإيرانية، في حال نجاح سياسة ترامب. كما من المتوقع زيادة كبيرة في الأسعار في حال نشوب صراع عسكري ما بين إيران من جهة والولايات المتحدة أو إسرائيل من جهة ثانية.
نقلا عن الحياة اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع