أثبت المصريون قدرتهم على تعبئة مواردهم، وبإمكاناتهم الذاتية، وخبراتهم، فقد حشدوا من أموالهم 64 مليار جنيه، من كل طوائف الشعب المصري. أي أننا نستطيع وبأموال المصريين فقط، ودون حاجة إلى أية قروض أو معونات أجنبية مشروطة أن نبني اقتصادنا ونعبر به من الأزمة الخانقة التي صنعها نظام الاستبداد المباركي. والدرس العظيم الذي يلهمنا الشعب القائد والمعلم إياه هو إمكانية بناء الاقتصاد المصري عبر مشروعات عملاقة اعتمادًا على الذات، وبالعمال والفنيين والمهندسين والخبراء المصريين، وبحسن الإدارة التي تجسدها دائمًا الإدارة المصرية لهيئة قناة السويس منذ تأميمها في العام 1956.
فقد تحدي عنصر الزمن، وهو ما يعكس إرادة القتال والتحدي عند المصريين شعبًا وقيادة، فتم إنجاز المشروع خلال عام واحد فقط، وهو ما يعكس قدرة الدولة المصرية على تحدي نفسها بإنجاز المشروعات العملاقة، وهو ما يعني ضرورة أن تواصل الدولة قدرتها على التحدي بإنجاز مشروعات عملاقة تعود بالنفع والخير على كل الشعب المصري. وهو ما يؤكد استعادة الدولة لهيبتها، وأنها عندما تقدم الوعود فإنها تحولها إلى برامج للتنفيذ وتتقيد بتحقيقه، وهو ما ينبغي أن يمتد لكل المشروعات الكبيرة في مصر كالمشروع القومي للطرق، وتوسيع الرقعة الزراعية، وبناء المساكن للشباب، والأهم من ذلك بناء المصانع التي تفتح آفاقا واسعة لعمل الشباب. (باختصار الدولة المصرية تستطيع أن تحقق المستحيل بإرادة المصريين وتكاتفهم).
كذلك قدرة الدولة المصرية على العمل وسط هذا المناخ الصعب من التحديات التي تحيط بها، سواء من الداخل، فلا تزال حالة من الإرباك في المشهد الداخلي، إضافة إلى مواجهة الإرهاب الذي تمارسه جماعات العنف مستترة وراء شعارات الإسلام وهو منها براء، أيضًا سعي قوى النظام القديم المباركي للهيمنة على مراكز السلطة في مصر، إضافة إلى المشهد الإقليمي والدولي، وتهدف قوى الهيمنة الصهيو أميركية إلى تفجير المنطقة برمتها وإحكام السيطرة عليها( سورية وليبيا والعراق واليمن خير مثال لذلك)، ومن ثم القضاء على دور مصر وقدراتها.
ومما لا شك فيه أن النجاحات الكبرى التي حققتها البلدان المتقدمة في شتى فروع التنمية، وكذلك الطفرات التي حققتها الاقتصاديات الناهضة في آسيا وأميركا اللاتينية، قامت بالدرجة الأولى على تنمية وإيجاد قواعد وأنساق الابتكار والإبداع الذاتي والقولبة الوطنية ذات الصبغة الدولية سواء على مستوى التقنيات الوطنية الناشئة، أو على مستوى تطوير التكنولوجيات الوافدة إليها واستبدالها تدريجيا بتكنولوجيا ذاتية، وبذلك أصبحت منظومة التنمية والتحديث في هذه البلدان تعتمد بالدرجة الأولي على الأنساق والقدرات الذاتية في مجال الخبرات والتصميمات والمواصفات وخطوط الإنتاج والأطر والهياكل والمعلومات والمكونات التي أبدعتها قريحة الكوادر المحلية المدربة على أعلى المستويات. وإذا كانت حقبة الستينات من القرن العشرين شهدت انطلاقة العديد من برامج التنمية الذاتية الناجحة في بلدان العالم النامي، وكذلك تحقيق نجاحات اقتصادية ملموسة في الحقب الزمنية التالية لها، فإن عامل الحسم والنجاح في تحقيق هذه الإنجازات قام بالدرجة الأولى على تنمية واستغلال الخصائص المهارية والابتكارية للعقول والقدرات الذاتية في هذه البلدان؛ مما جعل من هذه القدرات مطلبا عالميا تتسابق للحصول عليه كبريات المؤسسات الصناعية والتكنولوجية في اليابان وأميركا والدول الكبرى في أوروبا.
فقد انتهجت الحكومات المتعاقبة في سنغافورة وكوريا وهونغ كونغ والهند والصين وماليزيا والبرازيل والأرجنتين.. وغيرها من الدول التي حققت نجاحات اقتصادية وتنموية حقيقية (بشهادة المؤسسات الدولية ذات الاختصاص) سياسة واحدة: التركيز على القدرة الذاتية، وتنميتها وإعطاؤها الفرصة كاملة على المستوى القومي، وجعلتها شرطا لازما في تعاقداتها الدولية سواء في اتفاقات نقل التكنولوجيا والمعلومات أو في إطار مشروعاتها الاستثمارية مع الدول المتقدمة، في الوقت نفسه الذي حظرت فيه هذه الدول كل ما هو مستورد ولا يلبي ضرورة ملحة تتطلبها مشروعات التنمية والتحديث.
وبقدر ما قدمت هذه الحكومات من فرص ومزايا استثمارية متنوعة للمشروعات الأجنبية فوق أراضيها بقدر ما كان تأكيد ضمان إعطاء الفرصة كاملة لتدريب وتأهيل العقول الوطنية وتنمية القدرات المحلية من خلال هذه المشروعات.
سخر الله هذا البلد للدفاع عن الإسلام ومقدساته من أجل ذلك حباها بجنود هم خير أجناد الأرض وهم و أزواجهم في رباط إلى يوم القيامة وهذا الرباط يتمثل في يقظة أجهزة الدولة التي تعي جيدًا ما يحاك من مؤامرات ومخططات، وقادرة على تحقيق خطة التنمية الطموحة، وتعتمد في جوهرها على القدرة الذاتية للمصريين وعزيمتهم في قهر الصعاب وتحدى المستحيل.
من المؤكد أن هناك تغيرا إيجابيا في صورة الذات لدى المصريين فأصبح المصري يشعر بقدرته على إحداث التغيير ويشعر بالفخر والاعتزاز أنه أنجز ثورة سلمية رائعة بهرت العالم كله، وأنه أسقط نظاما دكتاتوريا مستبدا في فترة وجيزة، والنقلة في صورة الذات واضحة جدا خصوصا إذا وضعنا في الاعتبار الصورة السلبية التي كانت سائدة قبل الثورة وكانت مليئة بمشاعر الدونية والإحساس بالهوان والضعف وقلة الحيلة والمذلة والخضوع لدرجة جعلت المصريين يكرهون أنفسهم ويكرهون بعضهم بل وربما يكرهون مصريتهم ويشكلون أحلامهم خارج حدود الوطن.
إن المصري يولد منذ طفولته وهو يحمل عدة صفات من بينها "الاستهانة بالمجتمع" و"اللذة الفورية" دون الاهتمام بالمصلحة العامة، وهي الصفات التي تجعل الشخص يمكن أن يسرق ويقامر، بالإضافة إلى أن ميوله السياسية إما أن تكون للمحافظة أو أن تميل للتطرف دون وجود وسطية، ضاربا المثل بالشيوعيين في السبعينات "قلبوا متطرفين في الوقت الحالي".
أصل المرض هو أن الشخصية المصرية نفسها تتغير وتصبح أقل تسامحا وأكثر احتقانا، ويظهر ذلك عند أول خلاف بين الجيران أو في العمل أو في الشارع، فكل واحد متربص بالآخر، والأصوات ترتفع عند أول نقاش والعنف اللفظي والبدني هو الغالب على الخلاف الهادئ الحضاري والسلاح جاهز والجريمة واردة في كل لحظة.
إن المصري يصبح وحشا في أي حالة تمس الأرض أو العرض، أو دفاعا عن الدين أو طلبا للثأر، فالأرض بالنسبة للمصريين مجال خارج المساومة، وهو ما يفسر حالات الاعتصام، فإذا شعر أن مورد رزقه في خطر يتشبث بالأرض.
هذا الاكتشاف المتبادل بين الثورة المصرية والقوى المختلفة في القارة، صدرت عنه أولى التعبيرات في شعارات مثل "نحن نستطيع أيضا" أو تساؤل البعض " عما إذا كان ذلك ممكنا عندنا ؟" ونعرف أن شعار " نحن نستطيع" كان شائعا في أفريقيا منذ اتخذه المرشح "باراك أوباما" للتلويح بإمكانية الوصول لرئاسة الولايات المتحدة! وما زال " اللوبى الأسود " في أميركا يردده، وهو اللوبي ذو التأثير الواسع في أفريقيا ورغم حملة هذا "اللوبي" على العرب من قبل بسبب" الموقف من دارفور" فإن صحفه ومواقعه الإلكترونية هي التي تقود موجة التساؤل الإيجابي الآن عن" أفريقية" مصر، ودور شبابها في طرح عملية التغيير التي ستطاول أفريقيا بالتأكيد.
وقد وقعت أحداث الثورة المصرية في وقت احتاجت بعض القوى المتحركة في القارة لدفع وضعها هنا وهنالك، كانت الانتخابات في أوغندا تعاني قهر الحكم وإجراءاته، فدعت المعارضة لثورة مماثلة لما حدث في مصر، وليعلق الرئيس موسيفيني بأنه سيواجهها بالعنف لأن الأسلوب المصري ليس له مجال في أوغندا ومثل ذلك وقع في زيمبابوي وقريب منه في نيجيريا والسنغال وكينيا في تصاريح متبادلة بين الحكم والمعارضة وكأن "الحدث المصري" على حدودهم المباشرة، وهو كذلك بالفعل بفضل وسائل الاتصال الحديثة، لم يكن الرئيس الأوغندي وحده في التعبير عن هذا القلق من تصاريح المعارضة تجاهه، كذلك كان الموقف في زيمبابوي من قبل الرئيس موجابي (وليس صدفة ما قرأناه عن إرسال قواته إلى القذافي ضد الثورة عليه في ليبيا) بينما راح نائب الرئيس الغاني يكتب عن "الدرس المصري للحكام الأفارقة"، بحكم أنه جاء بعملية انتخابية في ظروف ديمقراطية في غانا إلى حد كبير، أما الرئيس الأثيوبي الذي خشي من آثار الثورة المصرية فقد توقع من آثارها فقط أن تصيغ مصر موقفا جديدا في خلافها حول اتفاقيات مياه النيل، وكتب أساتذة من السنغال عن محاولتهم المبكرة لتأسيس حركة على نمط "كفاية" المصرية وإن لم تساعدها ظروف سابقة ولكنها جاهزة الآن. كاتب المقال دكتور في الحقوق وخبير في القانون العام ومستشار تحكيم دولي وخبير في جرائم أمن المعلومات ومدير مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية