حينما نتحدث عن الجريمة الاقتصادية فإننا نقصد في البدء عالم الاقتصاد كبيئة خاصة لظهور ونمو الجريمة فيه ، ولا شك بأن عالم الاقتصاد تطور بتطور الحضارة البشرية ، فقديمًا كان الاقتصاد يبنى على الزراعة لذا كانت الجرائم الاقتصادية في ذلك الوقت محورها الزراعة وهو ما نجده في أقدم التشريعات التي عرفتها البشرية " شريعة حمورابي ".
ثم تطور الاقتصاد بتطور الحضارة في عصر النهضة الصناعية الذي كثرت فيه الاختراعات الصناعية التي نقلت التطور الحضاري إلى التقدم والنمو ثم وصلنا إلى عصر النهضة الحديثة حيث ثورة التكنولوجيا والفضائيات والحاسب الآلي واستخداماته وبالتالي ظهرت أنواع أخـرى من الجرائم الاقتصادية التي لم تكن معروفة من قبل والتي لا يصاحبها بالضرورة عنف ما ، بل ظهر أن مرتكبي هذه الجرائم نوعية مختلفة تهدم نظرية "لومبروزو" من أساسها حول شكل الإنسان المجرم ، إذ صرنا نشاهد مجرمين من طراز آخر أفخم من ذوي الياقات البيضاء وأذكى من أعتى المجرمين الذين قرأنا عنهم أو صادفناهم في حياتنا العملية
لابد هنا من التنويه أننا حينما نعرض لموضوع الجرائم الاقتصادية ليس لمعرفتها فقط أو معرفة تأثيرها الضار على اقتصاديات الدول بل المعنى والهدف الأسمى المقصود منها هو تحفيز الهمم والأفكار من خلال منظومة جديدة لمواجهة نوع جديد لا يقف عند حد معين من الجرائم بل يتطور باستمرار مع عقول إجرامية متطورة غير تقليدية تستخدم أحدث ما وصل إليه التقدم الحضاري من علوم وتكنولوجيا وتوظفهما لأغراضها الخاصة في عالم الجريمة ، مما يستدعي خطة استراتيجية لمكافحة هذا النوع من الجرائم ،
و كما قلنا من قبل فإن تطور الحضارة يعتمد على الاقتصاد ، وعالم الاقتصاد تطور بتطور الحضارة البشرية ، وكل حقبة زمنية طويلة تتميز عن غيرها ، فأساس الاقتصاد الأول لحضارات العالم اعتمد على الملكية والزراعة لذا كانت الجرائم الاقتصادية تتمحور حول الزراعة ، وفي عصر النهضة بل وحتى وقتنا الحالي مازالت الصناعة وعالم الشركات متعددة الجنسيات يلعب دورًا مؤثرًا وحيويًا في الاقتصاد العالمي وتوجد جرائم اقتصادية تتعلق بسرقة الاختراعات والتجسس الاقتصادي ومخالفة أنظمة الدول بل وتطور الأمر إلى جرائم عابرة للقارات فيما عرف بغسل الأموال وتمويل الإرهاب.
وإذا كانت قد برزت الجريمة الاقتصادية بصورة واضحة خلال القرنين الماضيين ، فإن ذلك يرجع لأهمية الحياة الاقتصادية في حياة الدول وأمنها واستقرارها ، وإلى الفوارق الطبقية التي تجلت فيهما بوضوح ، وعصفت بكثير من الأنظمة الاجتماعية فأسقطتها. ومنذ القرن التاسع عشر .. بدأت النصوص القانونية ذات الطابع الاقتصادي تأخذ دورها في التشريع الجزائي ، إلا أنها برزت بشكل واضح خلال النصف الثاني من هذا القرن ، وخاصة في الدول التي نحت منحى الاقتصاد الموجه ، وكانت الضرورة فيها ملحة لإصدار تشريعات تحمي التحولات الاقتصادية من العبث والتسلط والفوضى والفساد. وكانت هذه النصوص القانونية إما أن تصدر بصورة مستقلة وإما ضمن القانون العام ، ومن خلالها تجلت بشكل واضح الجريمة الاقتصادية. ولقد اعتبر بعض شراح القانون أن ظهور الجرائم الاقتصادية واحتلالها الأهمية التي فاقت جرائم الاعتداء على الأشخاص هو من أهم خصائص القرن العشرين . لأنها جرائم حضارية مرهونة بنظام الدولة حين تبلغ درجة معينة من التطور الحضاري . ولقد لقى هذا الاتجاه التشريعي نحو تدخل قانون العقوبات لحماية الاقتصاد ترحيبًا من الفقه الجزائي ؛ لأن على المشرع أن يحمي سياسته الاقتصادية بالتهديد بإجراءات شديدة تصيب المخالفين
لكن الحق يقال بأنه منذ القرن الماضي – القرن العشرين – وتحديدا أثناء الحرب العالمية الأولى وكذلك الحرب العالمية الثانية ظهرت جرائم اقتصادية تمثلت في احتكار السلع والمواد الغذائية والتلاعب في أسعارها بواسطة فئات محددة من التجار مما دعي الحكومات إلى التحرك لتجرم أية أشكال احتكارية أو تلاعبًا في الأسعار وظهرت لأول مرة فكرة أن يتم الاستعانة بالموظفين العموميين في الحكومة لضبط تلك المخالفات بدلاً من الاستعانة برجال الشرطة ، وكان من الضروري منح الموظفين العموميين أو المكلفين بخدمة عامة صفة الضبطية القضائية لأداء مهامهم المكلفين بها ، وظهرت في تلك الحقبة فكرة الضبطية القضائية لموظفي الحكومة .
في الثلاثين عامًا الأخيرة من القرن العشرين وبسبب فكرة العولمة ، واعتبار العالم قرية كونية صغيرة بسبب ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومــات وتطورات الحاسب الآلي ظهرت أنواع وأنماط أخرى من الجرائم الاقتصادية العصرية أو المستحدثة مثل : جرائم الاحتيالات الماليــــــة ، وجرائم النقد والتهريب الجمـــــركي وجرائم الحاسب الآلي والانترنت وجرائم عالم الاقتصاد الخفي مثل غسل الأموال وتمويل الإرهاب وغيرها ترتب على التطور التكنولوجي في قطاع الزراعة مثلا استحداث آلات جديدة تستطيع حصد محصول الأرز، وفصل البذور عن القش ، وتعبئة البذور في أجوله معدة للاستخدام المباشر، كل ذلك في عملية آلية واحدة لا تستغرق أكثر من ساعة ، في حين كانت ذات العملية تستغرق في الماضي أربع عمليات منفصلة،
وعمل ما يزيد على ثلاثين عاملا للفدان ، عملاً متواصلاً لمدة أسبوع . فقد ترتب على آلية النشاط الزراعي تعميق مشكلة البطالة في هذا القطاع . وعلى الرغم مما أفضت إليه ثورة التكنولوجيا من خيرات على الإنسانية ، إلا أن هناك ثمنًا يجب أن يدفع A price has to Paid في مقابل خيرات ثورة التكنولوجيا ، والثمن هو الوظائف ؛ فتكنولوجيا توفير الوظائف أزالت ومستمرة في إزالة قطاعات وظيفية بأكملها. وبمرور الوقت فلن تكون هناك فرص وظيفية جديدة في أسواق العمل.
وللخروج من هذا التنبؤ المتجهم. أكد بعضهم أن الحل سيكمن في تقليل عدد أيام العمل الأسبوعي والتوسع في قطاع العمل التطوعي . أكدت منظمة العمل الدولية أيضًا أن نمو معدل البطالة عالميًا يعزى في جانب كبير منه لثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ، وحالة الركود في الدول الصناعية مما قلل الطلب على صادرات الدول النامية ومن ثم مزيد من البطالة والفقر عالميًا. كما أكدت المنظمة الدولية أن النزاع المسلح أدى إلى المزيد من البطالة والفقر في دول مثل كولومبيا والشرق الأوسط كما هو حادث في الضفة و غزة. ومن الحقائق التي لا تحتاج إلى تأكيد أن الجريمة كانت أسبق مجالات العولمة Globalization ،
فالجريمة الدولية ظهرت منذ زمن بعيد ، فها هي الجريمة المنظمة بدأت في الظهور منذ بداية القرن العشرين في إيطاليا وتعتبر منظمة المافيا العالمية أخطر تنظيم إجرامي شهده المجتمع الإنساني حيث انتشرت أفرعها في معظم دول العالم وقد تنوعت أنشطة المافيا ما بين الاغتيال والسرقة والاحتيال وتهريب المخدرات والابتزاز ، وتزايدت خطورة المنظمـــة خلال النصف الأخير من القرن العشرين عندما نقلت نشاطها إلى الولايات المتحدة الأمريكية و خارج الحدود الإيطالية وضمت شخصيات بارزة من أرقى الطبقات الاجتماعية في المجتمع – أطلق عليهم اسم ( اللصوص أصحاب الياقات البيضاء ) تميزًا لهم عن اللصوص التقليديين الذين توحي ملامحهم بالإجرام..
وبخلاف الجرائم الإلكترونية، فهناك جرائم منظمة أخرى يرتكبها أصحاب الياقات البيضاء، مستغلين شبكات من العلاقات العامة القائمة على تفاهمات ضمنية بين أشخاص فاسدين، تضمّ عناصر منحرفة منتشرة في كافة القطاعات من خلال استخدام سلاح الرشاوى في تمرير الصفقات الكبرى، وبذلك يتمكّن الكبار من الحصول على الأموال بالرشاوى أو بإفساد الآخرين، حتى يفسدوا مثلهم، وتشمل مثل هذه الجرائم الحصول على قروض وتسهيلات مالية بالمليارات وتمرير صفقات وهمية، والحصول على اعتمادات مالية مقابلة لها، وهي جرائم لا يتمكّن من ارتكابها سوى قطاع معيّن من المجرمين الحاصلين على قدر عالٍ من التأهيل العلمي والتقني، وهم مجرمون من طراز غير تقليدي يعتمد على مهاراته وخبراته الفنية والتقليدية في ارتكاب هذه النوعية الجديدة من الجرائم.