بقلم - الدكتور مدحت نافع
تحرك مسبار باركر بسرعة هائلة نحو الشمس، سرعة تسمح له بالانتقال بين الساحل الشرقى والساحل الغربى للولايات المتحدة الأمريكية خلال أقل من دقيقة ونصف الدقيقة! كما تسمح له ببلوغ غايته فى سبع سنوات. البرنامج الذى ينقل تلك التفاصيل الشيقة كان عنوانه «رحلة إلى الشمس» على قناة ناشيونال جيوجرافيك أبو ظبى. التفاصيل شيقة للغاية، مغامرة لم يسبق أن خاضها أى جسم موجه نحو نجم من قبل. قرص الشمس هو مقصد الرحلة، سطحها المشتعل بما يقرب من ستة آلاف درجة مئوية هو الغاية التى يريد علماء وكالة الفضاء الأمريكية «ناسا» اكتشافه من خلال دوران المسبار حوله على بعد مسافة تزيد قليلا عن 6 ملايين كيلومتر. من المقرر أن يبعث «باركر» بعدد هائل من الرسائل المهمة إلى الأرض، والتى تساعد على تتبع تدفق الطاقة التى تسخن مجال الشمس، وتسارع الرياح الشمسية، وتحديد هيكل وديناميات الحقول المغناطيسية فى مصادر الرياح الشمسية، وتحديد آليات تسريع ونقل جزيئات الطاقة.
العقدة الحقيقية لتلك الرحلة، لم تكمن فى سرعة بلوغ قرص الشمس، ولا فى درجة حرارة على سطحها المزمع ملامسته، ولكن فى الهالات الشمسية الخطيرة التى تغلف الشمس بملايين درجات الحرارة المئوية التى يتعين على جسم المسبار اختراقها دون أن ينصهر ناهيك عن إصابته بالعطل! والصورة التى نراها لتلك الهالات كما تصورها عدسات ناسا تشبه الحبال المشتعلة، صورة أقرب إلى وصف الله تعالى للجحيم فى سورة المرسلات «إنَهَا تَرْمِى بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ».. وكان ابن عباس يقول: الجمالات الصفر حبال السفن، يجمع بعضها إلى بعض حتى تكون كأوساط الرجال... وهو ما يجهله غير العارفين بلغة العرب حينما يظنون فى قوله تعالى «حتى يلج الجمل فى سم الخياط» أن المقصود هو الإبل وليس الحبل الغليظ الذى تعقل به! وعلى عكس مشاعل النار التى نعرفها، والتى يزداد لهيبها كلما اقتربت من مصدرها، فإن جسم الشمس نفسه أبرد كثيرا من الهالات التى تحيطه، وكذلك شأن الكثير من القرارات الاقتصادية.
يصدر القرار الاقتصادى فيطلق حوله هالات حارقة أكثر سخونة من مركز القرار ذاته. قرار بفرض ضريبة على أدوات دين حكومية على سبيل المثال، قد لا يأتى بإيرادات تذكر إذا ما نظرنا إلى سعر الضريبة ووعائها. كذلك يمكن أن يكون العائد «الصافى» للقرار سلبيا على أكثر من نحو، خاصة إذا لاحظنا حركة تدفق الأموال فى البورصة، وإعادة توزيع الاستثمارات بعيدا عن أسهم البنوك التى من المتوقع أن تتضرر بهذا القرار أكثر مما سواها من مؤسسات. هالات ساخنة ضارة أطلقها قرار جوهره تعظيم الإيرادات الحكومية ومعالجة التشوهات الضريبية.
قرار آخر بتحرير سعر صرف الدولار الجمركى على السلع الرفاهية ومنها السيارات المستوردة، والتى كان يتوقع الجميع أن تنخفض أسعارها مع إلغاء الجمارك على السيارات الأوروبية. الهالات التى صنعها القرار يمكن أن تنعكس بسرعة فائقة على سوق صرف العملات الأجنبية، فقد خلق على الفور ازدواجية فى سعر صرف الدولار لصنفين من السلع أحدها موصوم بكونه سلعة رفاهية، والآخر من السلع الأساسية (على صعوبة تقدير وتصنيف السلع على هذا المعيار الفضفاض المتغير عبر الزمن والدول). صحيح أن سعر صرف الدولار الجمركى للسلع الرفاهية هو ذاته سعر البنوك، لكن أثره على الأخير سوف يأتى فى صورة صدمة جديدة لسعر الصرف، يخشى أن تؤدى إلى تقييده من جديد وخلق سوق موازية تقضى تماما على الآثار الإيجابية للتعويم، هذا بخلاف الآثار التضخمية المعجلة للقرار، والتى لن تطال السلع الرفاهية أو المستوردة فقط ولكن كل السلع الأخرى التى تصلح بديلا أو مكملا لتلك السلع. فارتفاع أسعار السجائر المستوردة يزيد الطلب على السجائر المصنوعة محليا ويرفع أسعارها، وكذلك الأمر مع المركبات ذات المكون المحلى، والتى تدخل فى منافسة مع السيارات المستوردة وتتأثر بارتفاع أسعارها وانخفاضه.
***
قرارات اقتصادية بتحريك بعض أسعار مصادر الطاقة، تصنع هالات مؤثرة على القطاعات الإنتاجية الصناعية والزراعية، وتترك آثارا تضخمية وتؤثر على مستويات التشغيل بأكثر من وجه... فهل العائد من القرارات يساوى التكلفة؟! سؤال مهم لن نعرف إجابته بدون تقدير علمى قياسى كمى (كلما أمكن) لتداعيات الصدمات على المتغيرات الاقتصادية، وعلى مصفوفة الحسابات الاجتماعية بشكل رئيس.
قرار بتلقى قروض أو مساعدات من مؤسسات تمويلية أو من دول بعينها، تصنع العديد من الهالات الاقتصادية بل والسياسية الحاكمة لآلية واستقلالية القرار الوطنى.
بالتأكيد ليس الغرض من المقال مناقشة جدوى تلك القرارات من عدمها والمفاضلة بين بدائلها المتعددة، فربما كانت قرارات إيجابية فى محصلتها النهائية، لكن مراد المقال هو إدراك ما تصنعه السياسات والقرارات الاقتصادية من آثار جانبية غير مقصودة فى كثير من الأحوال، والتى عادة ما تكون أشد وطأة من القرارات نفسها. هذا الإدراك هو الخطوة الأولى لرسم سيناريوهات الاحتواء «قبل» أن تصبح القرارات نافذة.
أحيانا يكون مقصود القرار هو صناعة تلك الهالات، فهى إذن ليست آثارا جانبية، بل هكذا يريد صانع القرار تصويرها. كأن تتخذ قرارا بتغيير البنية التشريعية الجاذبة للاستثمار لتصبح أكثر مواءمة للمستثمر الأجنبى، بينما تخلو البنية التشريعية القائمة من أى عوائق للاستثمار الأجنبى، فالهالة التى يصنعها التشريع «الجديد» توحى بتغيير قواعد اللعبة لتصبح فى مصلحة المستثمر الأجنبى وتعظيم عائداته. المهم وأنت تصنع تلك الهالات ألا يعميك ضياؤها، وأن تعمل جاهدا على إزالة العوائق الفعلية من طريق الاستثمار قبل أن تطلق التشريع الجديد، حتى لا يجد المستثمر نفسه أمام ذات المشكلات فيقنط من الإصلاح، رغم أن البيروقراطية والجمود المؤسسى يطلان برأسيهما على أضرحة مشروعات فشلت جراء تفشيهما فى جسد الاقتصاد كله.
صناعة الهالات الاقتصادية فن إذن، لكن النفاذ من بين ألسنتها أمر محفوف بالمخاطر، يجب على صانع القرار ومتخذوه أن يتقنوا حساباته، تماما مثلما فعل صانعو مسبار «باركر» إذ طوروا كأسا تستطيع مواجهة الشمس لتسجيل جميع البيانات المطلوبة، وفى ذات الوقت يمكن أن تتحمل صفعات الضوء الرهيبة فى غلاف الشمس وبين هالاتها المدمرة.
وزارة التخطيط والإصلاح الإدارى فى مصر هى الجهة الوحيدة القادرة على صناعة مثل هذا المسبار الاقتصادى. هى التى تتمتع بكل الإمكانات والصلاحيات للتنبؤ العلمى والتقدير المحكم لتداعيات القرارات الاقتصادية التى يمكن أن تعمل بشكل مكمل ومنتظم، كما يمكن أن تكون لاغية offsetting لبعضها البعض، كأن تزيد من حصيلة إيرادات ضريبية باليمين، لتفقد إيرادات صناعية وزراعية بذات القيمة وربما بقيم مضاعفة.
نقلاً عن جريدة الشروق