توقيت القاهرة المحلي 20:52:46 آخر تحديث
  مصر اليوم -

​حمار الأستاذ!!

  مصر اليوم -

​حمار الأستاذ

بقلم : أمير شفيق حسانين

كان للأستاذ مأمون أفندي، حمار قوي البنية، عالي المنكبين، ذو صحة جيدة، تؤهله لأن يمشي أو يجري مسافات طويلة دون كلل أو تعب، وكان الأستاذ مأمون معلم اللغة العربية بمدرسة القرية في أوائل الستينيات، يمتطي حماره البهي، ذا البردعة المستوية، زاهية الألوان.

وكانت أناقة المعلم، المتمثلة في ارتدائه البدلة القماش والطربوش الأحمر، وحرصه على نظافة حماره الأبيض، يجذبان الأنظار نحوهما بشكل دائم، ويصنعان حالة من الإعجاب والسرور في أعين الناظرين إليهما في الطرقات، وكان حضرة المعلم الفطن، حريصا على تحية من يعرف، ومن لا يعرف، من فوق حماره ملوحا بيده، ومُلقيا السلام بصوتٍ عالٍ أجش على كل من يقابله في شوارع القرية، أثناء ذهابه إلى عمله بالمدرسة في باكورة كل صباح.

وكان لمأمون أفندي مجموعة مُقربة من صبية المدرسة، من ضعاف التحصيل العلمي، وكان أغلبهم ينتمي إلى أُسر متدنية الحال، ورغم ذلك فقد اعتبر أن هؤلاء الصبية المساكين، هم خاصته، وقد صاروا بالفعل طوع بنانه في أي شيء يريد منه أن يعملوه له، ظنا منهم أن هذا من باب إرضاء كرامة وهيبة معلمهم.

ولهذا فقد عود الأستاذ مأمون هؤلاء الصبية الغافلين بأن ينتظره على باب المدرسة واحداً، صباح كل يوم، لكي يأخذ منه حماره الذي يمتطيه، ويذهب به إلى حقول الأستاذ مأمون، التي لا تبعُد كثيرا عن المدرسة، ثم يُسلم الحمار "للعم عويس"، هذا الأجير البسيط، الذي يتولى شؤون العمل والزراعة بحقول مأمون أفندي، وتكون مكافأة الصبي، هو سماح الأستاذ مأمون له بالهروب، بعيداً عن المدرسة، ليلهو ويلعب طوال اليوم الدراسي، دون تلقي دروس العلم أو التفكير في العودة للمدرسة!

بالفعل تعود بعض التلاميذ الكارهين والمستنفرين من المدرسة، على القيام بتلك المهمة الصباحية، ثم الهروب للعب هنا وهناك، أو الذهاب لتعلم حرفة يتكسب منها بعض الملاليم القليلة، ليساعد أسرته في تحمل المسؤولية، وهو في هذه السن المبكرة، أو ربما يرجع لينام في بيته أو أن يذهب ليساعد والده المزارع الفقير المسكين في أعمال الزراعة، بعدما يقنع والده صاحب الثقافة البسيطة، بأن هروبه من مدرسته أو الغياب منها، شئ مباح، خاصةً أنه بإذن من أستاذه الذي يعتبروه القدوة والمثل الأعلى في كل شئ، بينما لا يدري الأب المسكين أن ابنه يسلك سُبل الجهل والفشل، بسبب الانصياع وراء تهاون مأمون أفندي، الذي تساهل في أمور لا تؤدي إلا بالضرر لصاحبها عاجلاً ثم آجلاً!

بدأ بالفعل صبيان الحمار يتجهون نحو ترك طريق التعليم شيئا فشيئا بسبب التوجيه الخاطئ، من معلمهم غير النصوح، في الوقت الذي عانت فيه الأسر البسيطة، الفقر والعدم، وجاهدت أملاً في تعليم أبنائها ليصبحوا يوماً ما أصحاب شأن عظيم في المجتمع، بينما كان الإصرار ملازماً لهؤلاء الصبية المساكين، لسحب حمار أستاذهم الذي لم يجلب لهم إلا الخيبة!

كان الشق الآخر من مهام صبية الحمار، هو العودة إلى حقول مأمون أفندي ليتسلموا الحمار من "عويس" الأجير، بعد أن يطمئن الصبي بأن حمار الأستاذ، قد ملأ بطنه بالطعام من البرسيم الأخضر الطازج، فيعود الصبي إلى المدرسة في موعد الإنصراف، ممسكاً بلجام الحمار، واقفاً خارج المدرسة، يأبى دخولها، لا يبالي بنظرات اللوم والسخرية والحسرة من أعين زملائه الفطناء، مستديراً النظر، ليلمح معلمه، الذي ينادي عليه.. فيبادر الأستاذ مأمون بالقفز على ظهر الحمار، فيسحب الصبي الحمار وفوقه مأمون أفندي عائداً إلى بيت الأستاذ !

يرجع الصبي إلى بيته فرحا مسرورا، بعد أداء مهمته، معتقداً أن ما قام به من مهمة سحب لحمار أستاذه، هو شيء من قبيل الإخلاص أو الوفاء، وزيادة على ذلك اعتبرها التلميذ الكسول حجة يومية، وحيلة ذكية للهروب من المدرسة، بينما لا يدري الطالب المسكين أنه دخل مغارة مظلمة مكتوب على بابها "مأوى المتسربين من التعليم"، خاصةً مع تكرار انقطاعه عن المدرسة، وهجره للدروس وبعده عن تلقي العلم، والانصراف إلى اللعب في الشوارع ومرافقة الجهلاء والأغبياء وأصدقاء السوء.

مرت الأيام تمضي والسنوات تنقضي وصارت قضية سحب حمار الأستاذ مأمون، عادة لا تتجزأ من الروتين اليومي، للصبية الناقمين على التعلم، بالمدرسة التي يعمل بها معلم اللغة العربية، بسبب اإنصياع لتعليمات الأستاذ، غير السوية وإسناده إليهم لمهمة كارثية، حولت مصائر حياتهم نهائيا!

صارت عملية سحب هذا الحمار مجالاً للتنافس والسباق اليومي بين الطلاب الفاشلين العاشقين للحمار أكثر من التنافس على تلقي العلم الذي يلقنه لهم صاحب الحمار، حتى أنهم صاروا يتسابقون صباح كل يوم نحو حمار مأمون أفندي، لاستقباله، والأخذ بلجامه اللامع، لنيل رضا الأستاذ مأمون، ورضا حماره.

بدأت شعبية الحمار المسلي في الازدياد، بين الأجيال المدرسية المتتابعة بالقرية، بل وصار الحمار مصدر فرح وسرور لكل من يشاهده وهو يتبخطر في مِشيته، حاملاً على ظهره صاحبه الأستاذ مأمون أفندي، ولا يفكر الحمار أبدا في رفع إحدى قدميه لرفس من يمشي خلفه، أو يعض بأسنانه الحادة من يسحبه أو يداعبه، لكنه التزم الهدوء، واعتاد الألفة مع الجميع، ولهذا السبب صار للحمار كثير من الأصحاب والخلان والمؤنسين لطريقه ذهاباً وإياباً من المتسربين وفاقدي الرغبة في التعلم، بل باتوا ينامون ويحلمون بمرافقة الحمار الذي صار في منزلة الصديق والرفيق في الطريق.

كان شيئاً مخيباً للآمال، أن يبدي مأمون أفندي اهتماما بمصلحة حماره وهو من جنس الحيوان عن العناية والجدية بمستقبل الكثير من الأجيال التي جلست أمامه للتعلم، والذين هم من بني البشر، وتكريمهم واجب ديني وتفضيلهم أمر إلهي لا جدال فيه.

أما الصبية الفطناء محبي العلم، والذين نشئوا في بيوت، تعي قيمة حب المدرسة، فكانوا حريصين أشد الحرص على مستقبلهم ودراستهم والإنتظام في مدرستهم، بمساعدة ذويهم وأولياء أمورهم، ورفضوا تماماً أن يكونوا ضمن الفريق اليومي المعروف لسحب حمار الأستاذ مأمون، وابتعدوا عن طريق الحمار الملبد بالجهل والحماقة، وسلكوا طريق العلم والاستذكار والإجتهاد وتنظيم الوقت، ولذلك لم يكن لمثل هذا المعلم أن ينجح في استقطاب هذه الفئة الواعية، من الطلاب ويضمهم لفريق الحمار، ولذا نجى هؤلاء الطلاب المجتهدين من الوقوع في بئر التسرب من التعليم، وصاروا في أعلى الدرجات.

ومن بينهم ابن مأمون أفندي الذي صار طبيباً، لشدة حرصه على تعليمه سواء كان بالحزم أو اللين! أما صبيان الحمار، فتجدهم اليوم بعد مُضي العُمر والسنين، وقد صار فيهم العربجي والأرزقي والعتال والفران والسائق، ومن لا مهنة له، ومن هو غليظ القلب، وفظ اللسان، لأنهم حُرموا من حلاوة العلم، الذي يزين صاحبه بالإحترام ، ثم حُرموا كذلك منافسة وملازمة أولي العلم والفكر والرأي السديد، حتى كدت تستحسهم وقد تخطوا الستين عاماً، وهم يندمون على تفريطهم، وتساهلهم فيما مضي، وانشغالهم بما لم يُقدِم لهم النفع أو الفائدة، فما نفعهم أستاذهم الذي رحل عن الدنيا منذ عقود، ولا نفعهم حِماره، الذي نفَقَ، ولحق بصاحبه، وصار كلاهما تراباً تحت تراب!​

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

​حمار الأستاذ ​حمار الأستاذ



GMT 11:15 2023 الجمعة ,01 أيلول / سبتمبر

عام دراسي يتيم في اليمن

GMT 11:37 2024 السبت ,02 آذار/ مارس

أطفالنا بين القيم والوحش الرقمي

GMT 17:42 2017 السبت ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

درس خصوصي.. حين مطلع الفجر!!

GMT 15:12 2017 الجمعة ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

رؤية تكنولوجية للنهوض بالتعليم

GMT 11:50 2017 الجمعة ,20 تشرين الأول / أكتوبر

تدني التعليم والدروس الخصوصية

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمان ـ مصر اليوم

GMT 00:02 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

انسجام لافت بين إطلالات الملكة رانيا والأميرة رجوة
  مصر اليوم - انسجام لافت بين إطلالات الملكة رانيا والأميرة رجوة

GMT 11:23 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة
  مصر اليوم - نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة

GMT 20:30 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

جماعة الحوثي تعلن تنفيذ 3 هجمات على أهداف حيوية في إسرائيل
  مصر اليوم - جماعة الحوثي تعلن تنفيذ 3 هجمات على أهداف حيوية في إسرائيل

GMT 11:08 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

الكشف عن قائمة "بي بي سي" لأفضل 100 امرأة لعام 2024
  مصر اليوم - الكشف عن قائمة بي بي سي لأفضل 100 امرأة لعام 2024

GMT 10:18 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25

GMT 09:22 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 06:00 2024 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

العلماء الروس يطورون طائرة مسيّرة لمراقبة حرائق الغابات

GMT 09:43 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

GMT 20:12 2024 الخميس ,15 آب / أغسطس

عمر كمال يوجه رسالة مؤثرة لأحمد رفعت

GMT 10:00 2016 الأربعاء ,09 آذار/ مارس

إصبع ذكي يعيد حاسة اللمس للاصابع المبتورة

GMT 23:53 2016 الثلاثاء ,26 كانون الثاني / يناير

مصمم مغربي يطرح تشكيلة راقية من القفطان الربيعي لموسم 2016

GMT 05:09 2015 الإثنين ,28 أيلول / سبتمبر

توثيق ازدهار ونهاية مؤسس "داعش" أبو مصعب الزرقاوي

GMT 21:24 2017 السبت ,09 أيلول / سبتمبر

5 مواقف فتحت النار على سهير رمزي بعد خلع الحجاب

GMT 05:22 2017 الثلاثاء ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

خبيرة موضة تقدم نصائح لارتداء فساتين الصيف خلال الشتاء
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon