بقلم : داليا شمس
موسم الفيضان. درجة رطوبة الجو عالية كمثل هذه الأيام، ويطلق عليها «زمتة النيل« بالعامية المصرية الفصيحة، فلديها توصيف دقيق لكل ما نمر به وخاصة أحوال الطقس. البوسطة السودانية أو الباخرة التى تقطع الطريق أسبوعيا بين وادى حلفا وأسوان وصلت إلى مرساها أمام معبدأبو سمبل على الضفة الغربية لبحيرة ناصر، ولم تجد صعوبة فى الإبحار لارتفاع مستوى المياه. لسنوات طوال كانت المركب هى الرباط الوحيد بين الشمال والجنوب حاملة الرسائل والمؤن والبشر والحيوانات، لذا سميت بالبوسطة وأحيانا الوابور.
لم يكن هناك طريق برى، إذ يرجع تاريخ افتتاح هذا الأخير بين قسطل ووادى حلفا لعام 2014 فقط، وصارت الحافلات تقطع المسافة فى سبع ساعات، بدلا من الباخرة التى كانت تستغرق يوما أو ستة عشر ساعة على الأقل من ميناء السد العالى حتى وادى حلفا. لكن هذا لا يمنع أن الباخرة وما عليها كانت شاهدة على العصر وعلى أحوال النيل وأهله وتنقلاتهم منذ بناء خزان أسوان عام 1902، ثم التعلية الأولى عام 1912، ثم التعلية الثانية عام 1934، ثم وضع حجر أساس السد العالى فى يناير 1960 إلى أن تم إنشاء المشروع، وفى كل مرة كانت تغرق أراضى أهل النوبة ويضطرون إلى الصعود للجبال وبناء قرى جديدة وأحيانا إلى تغيير نشاطهم من الزراعة إلى التجارة، ثم كانت إجراءات نزع الملكية والتهجير مع الانتهاء من مشروع السد العالى. وكان عليهم وقتها دمج كل الأندية والجمعيات والهيئات فى كيان واحد وهو «النادى النوبى العام« ليكون لهم رأى موحد معبر عن آمالهم.
***
ظهرت أبيات الشعر التى تغنت من زمان بالمركب ومن عليها، ووصف الكتاب وأهل المكان أهمية ساعى البريد الذى كان ينتظره الجميع لأخذ خطابتهم واستلام الطرود، فكان المشهد مهيبا، وقال فيه الشاعر الراحل عبدالله محمد خير: « وابور البحر ما عارفة.. شايلة أعز زول جواها، ما هماها حالى البيا، مادام نوره وضواها. لوفات المحطة جمله لابد القرير يغشاها، قوم يوم الثلاتا إندلى، بى تالا الرصيف تلقاها«.
الصور القديمة كانت تشير أن للبوسطة السودانية صندلان من اليمين ومن اليسار، وأنها كانت تسير قديما بالفحم، لكن لما غرقت الباخرة «تنجور« سنة 1946، استبدلت بعطارد التى كانت تسير بالمازوت وتتبع سكك حديد السودان. الكل كان ينتظر التحويلات المالية التى تحملها البوسطة السودانية، وكذا البضائع التجارية التى يتم تبادلها من ميناء إلى آخر، إذ كانت تتوقف فى عنيبة وقصر إبريم وأدندان وأبوسمبل وغيرها من المدن الصغيرة والقرى التى تنشط حياتها مع وصول المركب، فتعثر مثلا على دكان تاجر يونانى عجوز يأخذ منهم البضاعة ويسوقها من خلال محله الصغير فى عنيبة حيث كان يقيم بعض المبعدين لأسباب سياسية فى زمن عبدالناصر، وكانوا يعيشون إلى جوار المدرسة الثانوية مع كلابهم واثنين من الحراس، يتنزهون على النيل.. والكلاب تحميهم من الذئاب ليلا فى هذه القرية التى تتبع مركز نصر النوبة، فى أقصى جنوب مصر.
كان يأتى أيضا إلى عنيبة تجار اللب والمواشى والحمير والبلح وتجار بعض البضائع إنجليزية الصنع فى الخمسينات والستينات: سجائر ماركة «كرافن ايه« فى علب من الصفيح، بطاطين مرسوم عليها خروفين كدليل على جودة الصوف، أمواس حلاقة، أجهزة راديو،... الأبناء يقفون على الشاطئ لتعلم مبادئ التجارة وأسرارها من خلال المراقبة ومتابعة المفاوضات أثناء البيع والشراء.
***
عالم كامل، بقيت بعض آثاره، لكن لم يعد كما كان بالطبع، فكل شيء يتغير حتى لو ظل لدينا فى البيت الراديو القديم الذى اشتريناه من هؤلاء التجار ولا يزال يعمل، وهو ما ذكرنى بحكايات «البوسطة السودانية« فى موسم «زمتة النيل«، وشكرت الله على نعمة الفيضان والخيرات التى تأتينا من الجنوب. ومع الحكايات تذكرت أيضا رواية «الشمندورة« للكاتب محمد خليل قاسم، الموجودة أيضا لدينا فى البيت على الرف، والتى صنفها النقاد كأول رواية نوبية تتحدث عن مأساة الترحيل التى عاشها أهل النوبة. تأخذنا الرواية فى رحلة إلى دروب قرية غارقة وإلى مجمل العادات والتقاليد والحياة فى حضن النهر، وذلك على لسان طفل لم يبلغ العاشرة، تحول أبوه من الزراعة إلى التجارة بعد تعلية خزان أسوان الثانية، تماما كعائلة الكاتب. حكايات الوابور والشمندورة نشتم معها رائحة شجر السنط والحنة ونبات الحلفا.
نقلًا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع