بقلم : جمال طه
مصر عانت الكثير، نتيجة لعجز الطاقة الكهربائية عن تلبية الاحتياجات الاستهلاكية.. تخفيف الأحمال فى 2012/2013 تجاوز الـ10 ساعات يومياً.. لأن الإنتاج بلغ 23.500 ميجاوات/يوم، بينما الاحتياجات 30.000 ميجا.. بعض المحطات تعرضت للتوقف، نتيجة لقصور عمليات الصيانة، أو نقص الوقود اللازم لتشغيلها.. المشروع القومى استهدف مضاعفة إنتاج الكهرباء خلال خمس سنوات بتكلفة 400 مليار جنيه، مما كان يستحيل تنفيذه دون تمويل خارجى.
المشروع اعتمد على إنشاء أكبر 3 «محطات كهرباء» فى العالم!!، نفذتها «سيمنز» الألمانية فى 3 سنوات، بالعاصمة الإدارية وبنى سويف والبرلس، بنظام الدورة المركبة، بموجب عقود استثمارية بلغت 6.7 مليار دولار!!، قام بتمويلها تحالف من المقرضين «دويتشه بنك، إتش إس بى سى القابضة، وبنك كيه إف دبليو أيبكس».. «المحطات» مشروع قومى عملاق، اشترك فى تنفيذه 20.000 عامل مصرى، وتدرب خلاله 600 مهندس وفنى، على أعمال التشغيل والصيانة والإحلال والتجديد.. دخلت الخدمة يوليو 2018، بكامل طاقتها الإنتاجية «14.400 ميجاوات»، رغم أن أقصى عجز للطاقة الكهربائية لم يتجاوز «6.500 ميجاوات» خلال ذروة الأزمة، ما يعنى أن الهدف أكبر من مجرد سد العجز الداخلى، وإلا لكانت عدة مشروعات صغيرة، بتكلفة أقل، تحقق الهدف. فائض قدرات مصر الإنتاجية حالياً، بعد تغطية أقصى احتياجاتها الاستهلاكية 20.000 ميجاوات/يوم، ترتفع لـ23.000 بعد تشغيل باقى وحدات محطة جنوب حلوان، ومحطة رياح خليج السويس ومشروعات الطاقة الشمسية فى بنبان بأسوان، الحكومة وقّعت مع شركة «أكوا باور» العالمية اتفاقاً لشراء الطاقة المنتجة من محطة توليد الأقصر ذات الدورة المركبة نوفمبر 2018، التى أنشأتها الشركة باستثمارات مباشرة 2.3 مليار دولار، ما يعنى زيادة الفائض لـ25.250 ميجاوات، وذلك إضافة لوجود مشروعات أخرى طور التنفيذ، أهمها محطتا فحم الحمراوين وعيون موسى، وضخ وتخزين المياه بعتاقة، ومشروعات طاقة متجددة، ومحطة الضبعة النووية، تصل قدراتها الإنتاجية لـ20.000 ميجاوات، تضاف إلى الفائض.. مصر تنفذ مشروعات ربط كهربائى مع ليبيا كمعبر لشمال أفريقيا، ومع الأردن للعبور إلى الخليج العربى، ومع السودان للربط مع الدول الأفريقية، وكذا مع السعودية.. بخلاف اتفاقها على خط الربط مع أوروبا عبر قبرص واليونان، ومستقبلاً لغرب أوروبا عبر المغرب.
استيفاء كافة احتياجات الاستهلاك الداخلى، ووجود هذا الفائض الضخم، دون استكمال مشاريع الربط، يفرض إيقاف تشغيل «المحطات»، بكل ما يترتب عليه من نتائج سلبية تتعلق بعمرها وكفاءة تشغيلها.. وكل ذلك لا يخفف أعباء الدين، ولا يؤجل مواعيد، ولا قيمة الأقساط المستحقة.. مصر تدرس إمكانية طرح أسهم «المحطات» فى البورصة، كما تبحث بيعها، لنقل أعباء الدين كاملة للمشترى، مع الاحتفاظ لنفسها بحق شراء الطاقة المنتجة، أسوة بما تم مع «أكوا باور».. ثقة الشركات الدولية فى مستقبل مصر كمحور للطاقة بالمنطقة، شجعت «زارو بلاكستون» الأمريكية و«إدرا باور» الماليزية، على تقديم عروض لشراء «المحطات».. ولكن قبل اتخاذ أية قرارات بدأت حملة موجهة تندد ببيعها!!، ضمن حملة أكبر تدعى تعرض مصر لأزمة اقتصادية، نتيجة لالتزاماتها تجاه صندوق النقد الدولى!!، مما دعا المركز الإعلامى لمجلس الوزراء إلى تأكيد تحسن الوضع الاقتصادى، ونجاح برنامج الإصلاح بشهادة المؤسسات الدولية، والتحسن الملحوظ بكافة التصنيفات والمؤشرات الاقتصادية العالمية لمصر.. مشدداً على أن ما يتردد مجرد شائعات تستهدف زعزعة الثقة فى الاقتصاد المصرى بعد تعافيه واستقراره.
صفقة «المحطات» يمكن أن تحقق نتائج إيجابية.. الأول: خفض الدين الخارجى بقيمة تساوى تكلفة المحطات «6.7 مليار دولار»، إضافة لأرباحها.. الثانى: انتقال التزامات «سيمنز» بموجب التعاقد للمالك الجديد، خاصة فيما يتعلق بتشغيل وصيانة «المحطات» حتى 2024، يرفع من قيمة الصفقة.. الثالث: تخفيض معتبر لنسبة الدين إلى الناتج المحلى الإجمالى.. الرابع: تشجيع الاستثمارات الأجنبية والمحلية على التوجه للمشاريع القومية الكبرى مضمونة العائد.. الخامس: انتقال ملكية المحطات للقطاع الخاص يحقق حوكمة الإدارة، ويخلص الدولة من أعباء التشغيل والصيانة، لتتفرغ للتخطيط والرقابة وحماية المستهلك.. السادس: زيادة رصيد العملات الأجنبية، وتعزيز قيمة الجنيه فى مواجهة الدولار.
لو تمت صفقة «المحطات» ستشكل دعماً للاستراتيجية المتكاملة لخفض وإدارة المديونية الحكومية، التى أعدتها وزارة المالية بمشاركة المجموعة الوزارية الاقتصادية والبنك المركزى والرقابة الإدارية، تحت إشراف لجنة مراجعة الدين الخارجى، الديون الخارجية أهم أوجاع الدولة، لكننا لا يمكن تقييم أوضاعنا دون النظر للخارج.. أكبر دين خارجى فى العالم يعود لليابان التى تتخطى الـ200% من ناتجها المحلى، والديون الأمريكية تتخطى الـ150%.. تقارير صندوق النقد الدولى عكست تطوراً إيجابياً فى النسبة الإجمالية لديون مصر قياساً للناتج المحلى الإجمالى.. كانت 108% فى «يونيو 2017»، انخفضت لـ98% «يونيو 2018»، وتستهدف الخطة استمرار الانخفاض ليصل لـ93% «يونيو 2019» ثم إلى 88% «يونيو 2020» ثم إلى 80% «يونيو 2022»، وتحقيق فائض أولى سنوى قدره 2% من الناتج المحلى، ومعدلات نمو سنوية تزيد على 6% فى المدى المتوسط.
الديون تعتبر أحد مصادر الإيرادات العامة، التى تلجأ إليها الدول لتمويل نفقاتها، عندما تعجز عن توفير إيرادات أخرى.. الوضع الحالى للديون غير مقلق، لكنه يفرض وقف الاقتراض تدريجياً، ورفع مستوى الإنتاج لتحسين الصادرات.. الطموحات التنموية وأعباء الديون أدت لفجوة تمويلية بموازنة 2019/2020 تصل إلى 35 مليار دولار، يمكن أن تسهم عائدات صفقة «المحطات» فى سد جزء مهم منها، وإلا فلا بديل للاستدانة لسداد أعباء الديون، وهذا أسوأ الاختيارات.
الاستراتيجية الجديدة لا تعمل فى اتجاه الدين فقط، ولكن فى اتجاه تحفيز النمو، وضم الاقتصاد غير الرسمى، والقضاء على التهرب الضريبى لزيادة الإيرادات العامة، وإعادة ترتيب أولويات الإنفاق العام لخفض الهدر المالى، وترشيد الدعم.. مصر تسير فى الطريق الصحيح، وقراراتها الاقتصادية والمالية تتسم بالرشاد.. فاعتباراً من العام الجارى توفر 3 مليارات دولار كانت تغطى احتياجاتها من الغاز المستورد، قبل تحقيق الاكتفاء الذاتى.. إنتاجها الحالى من الغاز 6.8 مليار قدم3/يوم، يرتفع إلى 7.5 مليار مطلع 2020.. نصدر حالياً 1.1 مليار قدم3/يوم، يرتفع لـ2 مليار نهاية 2019.. وغاز شرق المتوسط يبدأ ضخه لمعامل الإسالة نهاية يونيو الجارى، لإعادة تصديره، بقيمته المضافة.. وتحويلات المصريين بالخارج يتوقع زيادتها لـ30 ملياراً بدلاً من 26 ملياراً.. مصر الغد أكثر إشراقاً؟!.