بقلم : محمود خليل
القدرية فى التفكير أو الرضاء بالقضاء والقدر، كانت سمتاً أساسياً لـ«أدهم» بطل الحكاية الأولى من حكايات «أولاد حارتنا»، ويجد هذا الرضاء ترجمته فى «الطاعة والتسليم». كان «أدهم» أكثر الأبناء طاعة لأبيه «الجبلاوى»، ذلك الذى امتلك «الخلاء» وما يحيط به بقوته القاهرة، وهو جبار فى البيت الكبير كما هو جبار فى «الخلاء»، لذا فقد تعوَّد كل من فى البيت التسليم له. وعندما قرر فى لحظة أن يولى مهمة إدارة الوقف لولده «أدهم»، أطاعه الجميع، إلا إدريس أبَى، فكان مصيره الطرد من البيت الكبير إلى الأبد.. سمع «أدهم» وأطاع لأبيه، فقد كان أكثر إخوته حفظاً لتلك العبارة التى يرددها «الجبلاوى» فى مواجهة أى شخص يشعر فى خرائط وجهه أو أعماق شعوره بأى نوع من الامتعاض وهو يملى عليه أمراً: «هذه إرادتى.. وما عليك إلا السمع والطاعة».
الصمت والتسليم لأمر الله سمة أساسية من السمات التى تحدد تصور المصريين لأبى البشر، بل وللبشر جميعاً، خصوصاً إذا صدر الأمر عن صاحب قدرة، فالعصيان فى هذه الحالة يفضى إلى الندم. ولعلك سمعت المثل المصرى السائر الذى يقول: «لا تعاند من إذا قال فعل».. والمثل الآخر الذى يقول: «إذا جاءك الغصب خذه بالرضا». والواضح أن هذا الملمح من ملامح «أدهم المصرى» قديم، ويعود بجذوره إلى قرون مضت. فقد توقف «دى شابرول» أمام ملمح عجيب من الملامح التى تميز المصريين، والمتمثلة فى «الوجه الصامت». و«دى شابرول» -كما ذكرت لك بالأمس- أحد الباحثين (مهندس فى الأصل) الذين اختصوا بتحليل عادات وتقاليد المصريين ضمن مجلد «وصف مصر» الذى أبدعه علماء الحملة الفرنسية. يتحدث «شابرول» فى هذا السياق قائلاً: «لا يمكنك أن تكتشف ما يعتمل فى نفس المصريين عن طريق ملامحهم، فصورة الوجه ليست مرآة لأفكارهم، فشكلهم الخارجى فى كل ظروف حياتهم يكاد يكون هو نفسه، أى يحتفظون فى ملامحهم بنفس الحيدة وعدم التأثر، سواء حين تأكلهم الهموم أو يعضهم الندم أو كانوا فى نشوة أو سعادة عارمة». ويعزى «شابرول» ذلك إلى الطبيعة القدرية للإنسان المصرى.
وليس ثم من خلاف على أن التسليم بالقضاء والقدر شأن إيمانى. فلا حيلة للإنسان أمام قضاء الله، ولن تنفع شكوى أو يجدى صراخ فى مواجهة المقدور، لكن هذا أمر وإسناد كل فشل أو إخفاق فى الحياة للقضاء والقدر، أمر آخر. الجانب الثانى هو الذى يحتاج إلى علاج فى شخصية الإنسان المصرى. فأمام كل إخفاق لا بد أن نفتش عن الأسباب، وسوف تجدها شاخصة فى تلافيف النسيج الفردى أو الاجتماعى. فحظ الإنسان بين عينيه وليس طائراً يطير بجناحين فى السماء، هذا ما يجب أن يتعلمه «آدم المصرى». ومع ذلك فمن الإنصاف أن نشير فى الختام إلى أن الوجه الصامت الذى تحدث عنه «شابرول» ووصفه نجيب محفوظ فى «أولاد حارتنا»، كثيراً ما يقطع صمته ويصنع الأعاجيب. ولو أننا استرجعنا بعض المشاهد من حياة المصريين فى الفترة الفاصلة بين نكسة 1967 وانتصار أكتوبر 1973 المجيد، فسوف نجد أن الوجوه التى ظلت جامدة طيلة هذه السنوات الست كسرت صمتها وانتصرت على هزيمتها بمعرفة «أبناء الصمت».