بقلم : عبد الرحمن شلقم
أوروبا القارة التي لا تتوقف رياحها السياسية عن الحركة متعددة الاتجاهات والقوة، تقف الآن أمام خيارات يحكمها الكثير من العوامل الداخلية والخارجية. تنتظم القارة كلها في عقد سياسي واقتصادي، الاتحاد الأوروبي الذي يجمع كل دولها. غادرت بريطانيا الاتحاد الذي كانت عضواً غير كامل فيه؛ إذ لم تكن داخل نظام الشينغن وعملة اليورو. بريطانيا التي ظلت محكومة دائماً بعقلية الجزيرة، وموروثها الاستعماري وعلاقتها الخاصة بالولايات المتحدة الأميركية، كل ذلك جعلها كياناً وتكويناً يختلف عن بقية الدول الأوروبية. الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديغول، كان يرى أن روسيا أكثر أوروبية من بريطانيا وأن النظام الشيوعي الذي يحكمها هو الحاجز الوحيد بينها وبين أوروبا. وعندما أسس الجنرال ديغول إبان الحرب العالمية الثانية واحتلال ألمانيا النازية لفرنسا، أسس قوات فرنسا الحرة، والتجأ إلى بريطانيا بقواته، بقيت مسافة العلاقة بينه وبين بريطانيا وتحت قيادة ونستون تشرشل، بقيت واسعة رغم قسوة مجريات الحرب ومعاناة الشعب الفرنسي، ولم تتخلق كيمياء إنسانية بينه وبين تشرشل.
دول أوروبا الشرقية التي أمضت عقوداً تحت أنظمة شيوعية تابعة للاتحاد السوفياتي، لم تندمج عملياً من الناحية السياسية والثقافية والسلوك المدني مع دول أوروبا الغربية التي حققت قدراً كبيراً من الاندماج من حيث السلوك السياسي وبنية المجتمع المدني وحقوق الإنسان وتماثل كبير في منظومات القيم وسيادة القانون وشفافية المحاسبة. الفارق الاقتصادي بين الشرق والغرب الأوروبي ما زال كبيراً. نحن الآن أمام أوروبتين اثنتين في السياسة والاقتصاد والفكر أيضاً.
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانضواء دول شرق أوروبا تحت لواء الاتحاد الأوروبي، برز واقع سياسي تجاوز القارة إلى منصة المشهد الدولي كله. عالم جديد بتكوين غير مسبوق. أوروبا شرقها وغربها في كيان يجمعها مع الولايات المتحدة حلف عسكري دولي وحيد، حلف شمال الأطلسي (الناتو) بعد زوال الحلف الشيوعي المقابل، وارسو. أوروبا القديمة كانت تقاد برؤوس ثلاث، فرنسا وبريطانيا وألمانيا. بريطانيا كانت هي الأقرب دائما للتوجهات الأميركية في حين كانت فرنسا تحافظ دائماً على مسافة لاستقلال قرارها السياسي والعسكري. لقد راجع الجنرال شارل ديغول دور بلاده في قيادة حلف الناتو، وعارض الرئيس الفرنسي الديغولي الأسبق جاك شيراك الغزو الأميركي للعراق في حين شاركت بريطانيا بقوة في ذلك الغزو. ألمانيا ظلت تحتفظ بعلاقة خاصة مع الولايات المتحدة الأميركية بحكم نتائج الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة وتقسيمها إلى دولتين شكلتا خطوط التماس بين الشرق الشيوعي والغرب الرأسمالي. بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وكتلته في شرق أوروبا وتوحيد ألمانيا وقيام الاتحاد الأوروبي، صار العالم من الناحية السياسية والعسكرية عالماً جديداً. بروز الصين كقوة اقتصادية صاعدة وضاربة، وتراجع دور روسيا على الصعيد الدولي، وضع أوروبا أمام مسار آخر. علاقتها مع الولايات المتحدة الأميركية تجذرت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحافظت على تلك العلاقة في سنوات الحرب الباردة. منذ وصول الرئيس دونالد ترمب إلى سدة الرئاسة الأميركية، طرح رؤى جديدة في العلاقات الدولية شملت أوروبا والصين وروسيا. طرح ما كان مسكوتاً عنه حول المساهمة المالية الأوروبية في حلف الناتو، وشهد مجلس الأمن خلافات بين الدول الأوروبية الدائمة العضوية بمجلس الأمن والولايات المتحدة الأميركية وآخرها تجديد العقوبات على إيران.
المشهد الدولي الذي نراقبه اليوم، تتحرك فوقه أربع قوى أساسية، هي الولايات المتحدة الأميركية والصين وروسيا وأوروبا. لكن هذا الواقع ينتظر حدثاً مهماً وحاسماً وهو نتائج الانتخابات الأميركية الوشيكة. هل سيبقى الرئيس دونالد ترمب على كرسي الرئاسة بالمكتب البيضاوي في البيت الأبيض أم سيكون على سدة الحكم منافسه جو بايدن؟ هذه الانتخابات الرئاسية ستكون مفتاحاً لباب المسار القادم في السياسة الدولية. لو استمر دونالد ترمب في الرئاسة، فسيتحرر من حسابات الانتخابات الرئاسية لولاية قادمة وهواجسها واستحقاقاتها. هل سيواصل موقفه من الصين التي تصعد بقوة اقتصادياً وتطور برامجها العسكرية وتوسع وجودها في آسيا وأفريقيا وخاصة بمشروعها الكبير المتمثل في طريق الحرير، وما هي السياسة التي سيتبناها نحو روسيا، وأين سيكون موقع التحالف التقليدي بين أميركا وأوروبا، وهل سيراجع سياساته من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية المهمة مثل تلك المتعلقة بالمناخ وموقفه من المنظمات الدولية؟ وفي حالة فوز المرشح الديمقراطي جو بايدن، هل سيراجع كل سياسات ترمب مع الأطراف التي سبقت الإشارة إليها، وأين سيكون موضع أوروبا الحليف التقليدي لأميركا في خلافاته وتحالفاته؟ تنتقل السلطة في الولايات المتحدة الأميركية دورياً من رئيس إلى آخر، لكن جميعهم يتفقون على التفوق الأميركي ومحورية بلادهم في الفعل السياسي الدولي.
لا شك أن أوروبا ستكون قوة لها تأثير خاص في صناعة المشهد الدولي القادم المترتب على نتائج الانتخابات الأميركية. أوروبا لها توجهات سياسية متباينة، هناك دول يحكمها تيار شعبوي يقترب من خطاب الرئيس دونالد ترمب وخاصة في بعض دول شرق أوروبا وكذلك في إيطاليا، لكن هذا التيار له تعاطف مع روسيا. الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يحرص في سياسته الخارجية على استقلال القرار الفرنسي، فهو يقود بلاداً تمتلك السلاح النووي وعضواً دائماً بمجلس الأمن ولها تاريخ إمبراطوري ثقيل، في حين تقوم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بممارسة السياسة الناعمة المتوازنة كما ظهر ذلك في موقفها من مبادرة الرئيس الأميركي دونالد ترمب نحو إيران وكذلك موقفها من بعض الدول الأوروبية المتشددة تجاه تركيا بسبب التوتر بينها وبين اليونان. برغم أن ملف السياسة الخارجية ليس من الموضوعات الحاسمة في الانتخابات الأميركية، فإن نتائج الانتخابات القادمة سترسم خطوطا جديدة للسياسة الدولية وتفتح أبواباً على مسارات أخرى في العلاقات الدولية تحددها شخصية الفائز في انتخابات نوفمبر الأميركية.