بقلم - عبد المنعم سعيد
ظواهر الطبيعة المختلفة من زلازل وأعاصير وبراكين، كلها تعقبها «توابع» ومخلفات كثير منها دمار، وبعض منها ربما يخصب الأرض ويفتح الباب لأنهار جديدة. فى حياة البشر فإن الثورات والحروب تقوم بنفس الوظيفة، وأحيانا فإن ما يتم إنفاقه من أرواح البشر ودمائهم ودموعهم يولد قوة دفع كبيرة فى المجتمعات والأمم تؤدى بها إلى الرفعة أحيانا وإلى الحضيض أحيانا أخرى. الثورة الأمريكية وضعت الأساس لدولة عظمى من نوع لا يغزو فى الأرض فقط وإنما فى السماء أيضا. والثورة البلشفية جعلت من روسيا قوة عظمى تنافس القوة الأخرى فى العالم. الثورة الصينية أخذت بيد الصين من الفقر والمجاعة إلا أنها وفق كل المقاييس الراهنة دولة عظمى. الثورة الإيرانية فعلت نفس الشىء حينما جعلت من إيران دولة إقليمية لا يمكن تجاهلها. ولكن ما جمع كل هذه الثورات أنها ولدت طاقة عظيمة جعلتها تحقق أهدافا أساسية فى التعليم وخلق التكنولوجيا وتعبئة القدرات الذاتية، وفى كثير من الأحيان يكون تصدير الثورة جزءا من تصدير فائض الطاقة والعنفوان.
الشرق الأوسط عامة، والعالم العربى فى قلبه خاصة، يواجه نفس الحالة فيما بعد عهد ثورات «الربيع العربى»، التى سرعان ما واجهت نفس الأسئلة التى واجهتها ثورات قبلها. فبعد انفضاض السامر فى ميادين «التحرير» المختلفة، كانت نفس الأسئلة التى كانت متاحة لاتزال على حالها حول كيف يكون «النظام الجديد» جديدا فعلا، وهل من سبيل لحل المشكلات المستعصية من أول الأمية إلى الفقر إلى التخلف. وللأسف فإن الإجابات الأولى كانت مؤسفة، فلم تكن الثورة تقود إلى عالم أكثر تقدما وإنما إلى تعميق التخلف من خلال فتح الأبواب على مصاريعها لكى تتولى جماعة سرية الحكم، ويصبح الإخوان ومنهجهم فى إدارة الدولة والمجتمع هو التغيير إلى الخلف. حفلة الزفاف الأولى انتهت فى الصباح على صداع مخيف، وذهبت الفرحة والابتسامات ولم يبق بعد ذلك إلا الكثير من الاكتئاب والنزعات الانتحارية وذهب بعضها إلى مواكب مجمعة من المذابح.
فى سوريا وحدها تجاوز عدد القتلى نصف المليون، أما الجرحى فكانوا بالملايين، ومعهم دمرت مدن كاملة وسرقت حضارات جرى بناؤها عبر آلاف السنين. فى دول عربية أخرى لم يكن الحال بنفس الدرجة من القسوة، ولكن الصورة العربية فى مجملها كانت بائسة كل البؤس، فلم يأت الإخوان وتوابعهم فقط إلى الصورة، وإنما ظهر الثوار وائتلافاتهم الثورية فى حالات من الإفلاس الفكرى والسياسى غير متصورة، ولا تلائم حالة الصلافة التى كانوا يوزعونها على نوافذ المحطات التليفزيونية والصحافة ذات اليمين واليسار.
كل دول الربيع المزعوم عانت معاناة قاسية من مجموعات الأزمات المتعلقة بالأمن والاقتصاد والثقافة والمجتمع. تهديد الإرهاب بات منتشرا من الحدود المغربية فى الغرب حتى الحدود الأفغانية الباكستانية فى الشرق، ومن الحدود السورية التركية فى الشمال حتى القرن الأفريقى فى الجنوب. مصر التى كانت قبل الثورة معتبرة داخل مجموعة الدول المسماة «الأسواق البازغة»، ومحتمل كونها «نمر على النيل»، وحققت معدلا للنمو تجاوز ٧٪ خلال العام ٢٠٠٧/٢٠٠٨ تدهور إلى أقل من ٢٪ فى العام ٢٠١١، أما البطالة التى كانت ٩.٤٪ عام ٢٠٠٩ فقد قفزت إلى ١٣٪ عام ٢٠١٢. ارتفع الفقر من ١٦.٧٪ عام ٢٠٠٠ إلى ٢٦.٣ عام ٢٠١٣، وفى ذات العام ارتفع التضخم إلى ١٣٪ أما عجز الموازنة العامة فقد قفز إلى ١٤٪ من الدخل القومى المحلى. أصبح نسيج المجتمعات والدول تحت ضغوط عنيفة من أربع قوى سياسية. الأولى أتت من النظم القديمة، سواء تلك التى أطيح بها أو ظلت فى السلطة ولكن كا�� لديها ما يكفى من القوة السياسية والعسكرية. فى سوريا ظل النظام فى السلطة بعد سبع سنوات من الثورة حتى ولو كان الثمن ملايين الضحايا والخسائر المادية، ومعها احتلال سوريا من قبل روسيا وتركيا وإيران وحزب الله ومعهم أنواع مختلفة من الجماعات الإرهابية. القوة الثانية مثلها شباب الطبقة الوسطى التى أشعلت الثورات ولكنها لا تعرف ماذا تفعل أكثر من أن تكون حزمة من «النشطاء» و«الحقوقيين» التى تعرف رسائل الإنترنت، ولكنها لا تعرف كى تقود، والأكثر أهمية إلى أين تقود. هؤلاء لايزال حلم اللحظة التى عاشوها باقيا، ولديهم الظن أن تحالف أبراج المعاناة وارتفاع الأسعار يمكنها أن تجعل شرارة «الفيسبوك» تشعل حريقا آخر كالذى مضى. القوة الثالثة هى الإخوان المسلمون وتوابعهم وحلفاؤهم من سلفيين وراديكاليين، وهؤلاء عرفوا طعم السلطة وكانوا قاب قوسين أو أدنى من الهيمنة على مصر كلها، وهؤلاء يظنون أن قواعدهم ونوافذهم التليفزيونية يمكنها أن تعيد لهم مجدا ضاع من بين أياديهم. القوة الرابعة هى القوات المسلحة التى كانت تقليديا جزءا من «النظام» إلا أنها أثبتت فى مصر على الأقل أن مكانتها وقوتها تستمدها من الشعب وتعرف متى تتدخل من أجل التغيير مرة، ومن أجل الإنقاذ مرة أخرى.
كل هذه القصة ضرورية لكى نتعرف على النقطة التى نعيشها الآن، فالدخول فى الثورات ليس مثل الخروج منها، كما هو الحال عندما تنبثق عن البراكين حمم ونار. مثل ذلك لا يمكن التعامل معه إلا بعملية تبريد ذات أبعاد متعددة سياسية واجتماعية وثقافية تواجه الأسئلة الصعبة حول الدولة وعلاقتها بالقوى المختلفة، والتغيير ومحركاته، والأهداف والمقاصد التى تجعل الدولة تستعيد نفسها أولا وتستمر فيما استقرت عليه ثانيا وقادرة على التقدم إلى الأمام ثالثا. ثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٣ كانت الخطوة الأولى لاستعادة الدولة ليس فقط من الإخوان. وإنما من الحالة البركانية الفوارة بالفوضى والشقاق وغياب الهدف والمزايدة السياسية ما بين طرق قديمة وأحلام وكوابيس لابد وأن تستقر على مسار جرى التوافق عليه. ولعل ذلك هو ما جرى خلال السنوات الأربع الماضية، ورغم أن بعضا من آثار البركان لاتزال باقية فى شكل عمليات إرهابية من وقت لآخر؛ إلا أنه بات واضحا أن هناك ما يكفى من الاستقرار المؤسسى والعملى الذى يجعل الدولة فاعلة، وأكثر من ذلك جاذبة للاستثمارات، وخلال الفترة الأخيرة جاذبة للسياحة. السنوات الأربع الماضية كانت لتبريد مفاعل انفجر؛ والسنوات الأربع القادمة سوف تكون لتوليد الطاقة اللازمة لدولة متقدمة. مثل ذلك ضرورى حتى لا ننسى!.
المصدر : جريدة المصري اليوم القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع