مَن يراجع الصحف المصرية اعتبارًا من يوم ٢٣ يوليو١٩٥٢، لن يجد فيها سوى تأييد حركة الضباط الأحرار، ليس نفاقًا بل كان شعورًا عامًّا، كبار الزعماء زاروا مقر القيادة مباركين وداعمين، يكفى أن زعيم الأغلبية مصطفى النحاس (باشا) قطع رحلته الصيفية واتجه مباشرة إلى القيادة والتقى بمحمد نجيب وبعض زملائه، وهكذا كان موقف الصحف، بل إن بعض الصحف وكبار الصحفيين تصوروا وحاولوا إبراز أن لهم يدًا وفضلًا في قيام الحركة، فضلًا عن نجاحها.
إلقاء القبض على صاحبى «أخبار اليوم»، بمكيدة زميل، خلق حالة جديدة، الواضح أن الأستاذ مصطفى، بعد خروجه، شعر أنه مستهدف، ليس من الضباط الأحرار ولا من الحكام الجدد، بل من المنافسين والخصوم داخل المهنة، وفق قاعدة «عدوك ابن كارك»، هؤلاء يمكن أن يكون لديهم من المكائد أضعاف ما يحملونه من الغيرة والإحن أو الأحقاد الخاصة، ولذا قرر قطع الطريق وسد الذرائع أمام المكائد القادمة، ليس- فقط- بتأييد ومساندة خطوات وقرارات مجلس قيادة الثورة- الذي لم يكن قد تم الإعلان عنه بعد- ولكن بخوض معاركهم وذبح خصومهم أو مَن يتصورهم خصومًا لهم، فكانت الحملة الرهيبة على الملك فاروق، ولم تكن حملة سياسية، أقصد تناقش سياسات وقرارات فاروق، وهناك عشرات القضايا والمواقف السياسية في مسيرة فاروق تستحق وإلى يومنا هذا النقاش والمؤاخذة. حملة مصطفى أمين ركزت على حياته ومسلكه الشخصى، امتدت الحملة إلى الطعن- تلميحًا- في نسب فاروق إلى أبيه، كان فاروق حين وضعته أمه في فبراير ١٩٢٠ موضع لغط. الملكة الأم وضعت الطفل بعد حمل سبعة شهور، البعض تزيّد وقال بل أقل من ذلك، وثارت تكهنات عبر عنها الشاعر محمود بيرم التونسى في قصيدة هجائية دفعت الملك فاروق إلى نفيه من مصر. أعادت حلقات «ليالى فاروق» النبش في كل ذلك.
وقد يتصور البعض أن الحملة كانت «موجهة» من نجيب أو عبدالناصر، وعلى الأغلب لم يكن هناك توجيه، كانت هناك محاولات صحفية للحد من هذه الاندفاعة بتقديم آراء تركز على الفشل السياسى للملك دون إغفال ما تحقق في عهده ودون امتداد الحملة إلى كل أسرة محمد على، يُضاف إلى ذلك أنه في تلك الفترة المبكرة بالنسبة لهم، لم يكن لهم أي سلطان على الصحف والمجلات، وهذا ما دفعهم إلى تأسيس مجلة «التحرير» وأسندوا رئاسة التحرير إلى واحد منهم هو الصاغ ثروت عكاشة، ثم أُغلقت وأسسوا جريدة «الجمهورية»، ترأس تحريرها أنور السادات، ولم يجد عبدالناصر غضاضة في أن يصدر ترخيصها باسمه، كما أن هذا التعامل مع سيرة فاروق لم يكن في صالحهم ولا يخدمهم، لم يكن فاروق يشكل أي خطورة عليهم، الحملة كانت ترتبط بأوضاع مهنة الصحافة من داخلها.
صحفيًّا باتت الصحيفة مطالبة بأن تعلن التأييد المباشر والصريح لكل قرار أو خطوة يتخذها مجلس القيادة وتجنب مناقشة أي قرار، خشية أن يفهم ذلك أو يتم حمله على معسكر المعارضة أو الرفض، حتى التأييد الضمنى لا يُعد كافيًا، قد يُفهم أنه امتعاض أو تحفظ، لا بد من التهليل، سيصبح المعيار ليس التأييد فقط، بل مدى الحماس، أخبار اليوم نفسها سوف تدفع ثمن ذلك. حين نُشر مانشيت عن مقتل السفاح (خبر متعلق بجريمة)، وأسفل منه مباشرة مانشيت عن الرئيس عبدالناصر سنة ١٩٦٠، فُسر الأمر على أنه «تلسين» على الرئيس.
كان يمكن الدفاع بأن موضوع «السفاح» له مقروئية عالية، وأن الجريدة لا تصدر بمانشيت واحد، هناك العديد من الأسانيد للتفسير، لكن مناخ التربص المهنى وتبادل المكائد والدس لم يدَعْ فرصة للدفاع ولا لشرح بعض القواعد المهنية. ولا يكفى التأييد وحده، بل خوض معارك (فضح وتعرية شخصية) مع الخصوم أو مَن يصنفون هكذا. وانتقل ذلك من القضايا والمواقف السياسية الكبرى أو الصغرى إلى كافة الأمور، بما فيها العلاقات الحميمة داخل الأسرة الواحدة.
كانت الصحف الرصينة تتجنب الخوض في الأمور الشخصية والخاصة إلا إذا ارتبطت ارتباطًا مباشرًا بشأن عام، أو صارت قضية عامة، كما جرى سنة ١٩٠٤ مع زواج الشيخ على يوسف من صفية السادات دون علم والدها الشيخ عبدالخالق السادات، الذي لجأ إلى القضاء للتفريق بين الزوجين لعدم الكفاءة الاجتماعية بين الزوج والزوجة.
عقب ثورة ١٩ نشبت خلافات سياسية حادة بين زعماء الثورة، سعد زغلول في جانب وعدلى يكن في جانب، بلغ الأمر أن أطلق سعد زغلول على خصومه «برادع الإنجليز»، اعتبرها عدلى يكن كلمة «نابية»، ولكن في هذه المعركة وما تلاها لم يتطرق أي طرف إلى المسائل الشخصية والخاصة لدى الطرف الآخر، ولم يكن أي منهما ملاكًا ولا صاحب فضيلة، كانا وغيرهما أناسًا مثل كل البشر، في حياة كل منهم جراح ونقاط ضعف وعورات، السير الذاتية لبعضهم موجودة، مذكرات الزعيم سعد زغلول نموذجًا، لكن ما انزلقوا إلى تناول هذه الأمور، وجعلها مادة للنَّيْل من الخصوم أو «تجريسهم». ونعرف جميعًا أن الزعيم سعد زغلول اشمأزّ كثيرًا من محمود بيرم التونسى بسبب قصيدته عن مولد الأمير فاروق، وساورته الشكوك حوله، حين ذهب إليه بيرم في باريس، كما حكى بيرم نفسه في مذكراته.
وللتاريخ كانت هناك بروفة سابقة للتجريس الصحفى، حدثت مع مصطفى النحاس، خاصة بعد إقالة حكومته الأخيرة في يناير ٥٢، إثر حريق القاهرة (راجع كتاب على أمين «هكذا تُحكم مصر»).
سياسيًّا وتاريخيًّا فإن صورة الملك فاروق إلى يومنا هذا لدى الكثيرين هي صورته في كتاب مصطفى أمين «ليالى فاروق»، ويمكن أن تجد مواطنًا يعتبر نفسه ناصريًا ويهاجم بضراوة مصطفى أمين ويتهمه، لكنه مشبع تمامًا بروايته عن فاروق وليس لديه أدنى استعداد لمناقشتها.
وصار قاعدة أن يتهم انتهاك سمعة المسؤول واستباحته بمجرد أن يغادر موقعه، رغم أنه يكون موضع إشادة وهو في الموقع، ما جرى مع الملك فاروق الأول فور تنازله عن العرش جرى مثله وربما أشد وأنكى مع الزعيم جمال عبدالناصر، لم يتورع الأستاذ جلال الدين الحمامصى عن الطعن في ذمته المالية، دون سند من المعلومات، رغم أن عبدالناصر استبدل جزءًا من معاشه لتجهيز ابنته منى، أما ما حدث مع الرئيس أنور السادات فيستحق دراسة خاصة، حيث وُجهت إليه كل التهم السياسية والأخلاقية وانهالت قصائد المديح على الإرهابى الذي اغتاله. في سنوات حكمه الأولى أبدى الرئيس حسنى مبارك فزعًا من تلك الحالة، استباحة المسؤول بعد خروجه من الموقع، بل وجدنا عريضة يوقع عليها عدد من رموز النخب إلى رئيس الجمهورية تطالب بالعفو عن القاتل.
الرئيس الأمريكى ريتشارد نيكسون غادر موقعه مستقيلًا تحت وقع فضيحة «ووتر جيت»، كان متورطًا فيها بشكل شخصى ومع ذلك عومل باحترام وتقدير فور مغادرة موقعه، وكانت آراؤه السياسية موضع تقدير وتؤخذ بجدية وهو رئيس سابق.
الرئيس الفرنسى شارل ديجول غادر موقعه الرئاسى جراء مظاهرات الطلاب سنة ١٩٦٨، لكن ذلك لم يدفع الصحافة الفرنسية إلى تجريسه أو إنكار إنجازه العظيم في تحرير فرنسا.
وفى المحصلة النهائية وبإزاء عمليات الاستباحة تلك والتجريس المتتالية، ماذا يبقى في تاريخنا الحديث ليعتز به المواطن العادى؟. حين يقوم بعضنا بجَرّة قلم، يهيلون التراب على أسرة محمد على، ثم تلعن فترة عبدالناصر، وجدنا من طالب بهدم السد العالى وأدان تأميم قناة السويس وإخراج الإنجليز من مصر، في مسيرة السادات قرأنا عدة مرات من أصروا على أن عبور قناة السويس يوم ٦ أكتوبر كان «تمثيلية متفقًأ عليها» بين السادات وكيسنجر وجولدا مائير، وهكذا.
نحن أمام عملية قطيعة تاريخية، انتهاء أي مرحلة أو حقبة لا يعنى شطبها من التاريخ، الذاكرة الوطنية تبنى على التراكم التاريخى (ثورة يوليو لم تقاطع كل الحقبة السابقة)، مرة أخرى ليس مطلوبًا تمجيد أجوف للتاريخ، بل تعامل نقدى مستمر ومتجدد معه، النقد شىء وإلغاء التاريخ شىء آخر؛ السخرة استعملت في حفر قناة السويس، وهذه مسألة مدانة، لكن لا يعنى هذا أن نلغى القناة كلها من وعينا وذاكرتنا، لكننا رُزِئْنا بمن يصرون على محو الذاكرة الوطنية، أو شطب الماضى مرحلة مرحلة، لدوافع أيديولوجية أو أهواء سياسية وربما عن تصور ساذج أن ذلك يفتح طريقا لهم في الحاضر، بإزاء هذا كله لا ينبغى أن نندهش حين تكون هناك حالة من انعدام الثقة لدى قطاع من المواطنين في أداء مؤسسات الدولة ورموزها، وتغليب الشك تجاه أي خطوة تتم، ولا ينبغى أن نندهش كذلك من تحليق «طيور الظلام» في الفضاءين الاجتماعى والسياسى مطالبين بالعودة مجددًا إلى الاستعمار العثمانى.
الحديث ممتد.