بقلم - د. محمود خليل
لا تتوافر معلومات متماسكة حول فترة الصبا أو شباب النبى صلى الله عليه وسلم.. كل ما هو متاح من معلومات فى هذا السياق يؤكد أن محمداً كان شاباً مستقيماً أو قُل نموذجاً للاستقامة فى مجتمع كان أكثر الشباب فيه ميالين إلى متع الدنيا، وعبثية الدين. تستطيع أن تستدل على ذلك من مراجعة ما ورد لدى «ابن كثير» فى كتابه «البداية والنهاية» عن شباب عمر بن الخطاب، وهو يحكى قصة إسلامه. فهو يشير إلى أن «عمر» حكى أنه خرج ذات يوم ليشرب الخمر مع مجموعة من أصدقائه، فلم يجد منهم أحداً، فقرر الذهاب إلى خمارة لعله يجد غايته فيها، ذهب ولم يجد عند الخمار خمراً، قرر لحظتها الذهاب إلى الكعبة والطواف حولها، فطاف سبعاً أو سبعين -لم يحدد- وإذا به يرى النبى صلى الله عليه وسلم قائماً يصلى.
شباب مكة حينذاك كان أكثر همهم شرب الخمر والاجتماع فى مجالس الأنس واللهو، فإذا لم يجدوا ذهبوا إلى الكعبة وطافوا بها، كما فعل عمر بن الخطاب، حين لم يجد صحبته. إنها النظرة العبثية إلى الحياة على اعتبار أنها حالة من حالات اللهو، وكذلك النظرة العبثية إلى الدين، تعتبر العبادات نوعاً من التسلية أو الإلهاء أو التتويه عن الواقع.
لم يكن النبى صلى الله عليه وسلم كذلك، بل اشتهر بين قومه فى شبابه باستقامة أخلاقه، إلى حد أن لقبوه بـ«الصادق الأمين»، بل واحتكم إليه كبارهم فى بعض المواقف، لما هو مشهود له من الحكمة. والمؤكد أنهم كوَّنوا عنه هذا التصور بعد خبرة وتجربة، أضف إلى ذلك ما لمسوه فيه من جدية وجدت ترجمتها فى اعتنائه بالعمل. فلم يكن النبى من أصحاب الثروات أو الوارثين الذين يغنيهم مالهم عن العمل والسعى.
من المعلوم أن النبى عمل فى صباه برعى الغنم، وفى شبابه اشتغل بالتجارة، فشارك مع عدد من الشباب الجادين من أمثاله فى تجارة السيدة خديجة، وقد تمكن من اكتساب مكانة أكبر لدى السيدة الثرية، بسبب ما أثبته من كفاءة وإخلاص وأمانة فى العمل.
كلتا الحرفتين اللتين عمل بهما النبى فى صباه وشبابه هيَّأته لأن يصبح شخصية متأملة، تطيل النظر والتفكير فى الواقع من حولها، وفيما وراء هذا الواقع، تنظر إلى الأرض وتتابع أحوال أهلها، وتشرئب بعنقها إلى السماء سائلة الهدى واليقين، وأكثر ما يورثه التأمل فى النفس هو الحزن النبيل على أحوال المحيطين بالشخص.
انظر إلى هند بن أبى هالة -الذى رباه النبى- كيف يصفه صلى الله عليه وسلم قائلاً: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان دائم الفكرة ليست له راحة، لا يتكلم فى غير حاجة، طويل السكوت، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه، يتكلم بجوامع الكلم فصل لا فضول ولا تقصير».
الحزن خصلة من خصال الشخصية المتأملة، ومنذ شبابه صلى الله عليه وسلم كان كثير التأمل، وكان يخلو إلى نفسه بالأيام -حتى قبل البعثة- داخل غار حراء، يفكر فى شأن العالم من حوله. كان طويل التفكير فى الأمور، لذلك يسجل «هند» ملاحظة «ليست له راحة»، فطول التفكير يرهق صاحبه، ويجعله زاهداً فى الحديث من غير حاجة. وكان صلى الله عليه وسلم إذا تكلم اعتمد على اللغة المكثفة والجمل القصيرة العاجلة التى تنقل عظيم المعلومات فى أقل عدد من الكلمات. كان يتحدث -كما يصف هند- بجوامع الكلم، ويعرف كيف يدقق فى استخدام اللغة بشكل يعبر عن فكرته بشكل واضح ومستقيم، دون تزيد وإسهاب، أو اختزال يخل بالمعنى.