بقلم: فـــؤاد مطـــر
منذ اختياره من جيل الدبلوماسية الشابة ليكون سفيراً للمملكة العربية السعودية لدى لبنان، يبتكر وليد بن عبد الله بخاري المناسبات التي تجعل القلوب اللبنانية المتنافر منها أقل تنافراً في مواقفها الحادة، وتجعل المتآلف منها أكثر تآلفاً، وأمله من ذلك أن ينحسر التنافر ويسود التآلف. وعلى مدى سنتيْن أخذت كياسة دبلوماسية السفير البخاري حيزاً لها في حقبة الفوضى الخنَّاقة التي يعيشها لبنان وباتت مبادراته المتباعدة عن ماراثون تلك الصراعات المتنقلة، تترك في النفس حالة من الارتياح؛ كونها تتعلق بجوانب فكرية وإنسانية من العلاقة الراسخة الجذور بين المملكة ولبنان. وبعد العناية النوعية من جانبه وطاقم السفارة والقنصلية ببضعة ألوف من الحجاج اللبنانيين، ها هو بخاري يضيف المسيرة المصورة لتاريخ العلاقات الدبلوماسية إلى ابتكارات حفاوية ارتبطت به، ويتم لهذا الغرض قبل ظهر يوم الثلاثاء المقبل (20 أغسطس/ آب 2019) في «بيت بيروت - السوديكو» معرض الذاكرة الدبلوماسية السعودية - اللبنانية وتحت عنوان «شواهد نابضة».
وبقدر ما أن الفكرة مبهجة، فإن التسمية مبعث اعتزاز؛ كون النبض يتصل بالقلب. وكأنما يريد السفير بخاري القول ما معناه إن مسيرة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية ولبنان ليست مجرد تمثيل دبلوماسي تقليدي بين دولتيْن، فهذا أمر تنطبق عليه العلاقة بين لبنان وأكثر من مائة سفارة ومثلها قنصليات من دول القارات الخمس، وإنما هي علاقة بين قلبيْن في كل منهما شرايين من الود والحرص والتقدير نحو الآخر.
وكما الفكرة طيِّبة في حد ذاتها، وثمة حاجة إليها وإلى مثيلات من النسيج نفسه تتم وسط هذه الحالات من الفوضى الخنَّاقة التي لطالما أرهقت اللبنانيين، وعطَّلت مصالح كثيرة، وأعادت إلى الأذهان أحداث أيام اختلط فيها الدم بالحقد ثم بالعداوة، فإن مكان انعقاد المعرض أمر له أهمية؛ ذلك أن «بيت بيروت» حيث سيرعى المعرض رئيس الحكومة سعد الحريري الذي تتكسر السهام من جانب الرماة ذوي الأمزجة الموسمية على شخصه بغرض إحراجه... فإخراجه، هو رمز لحالة لطالما كابد اللبنانيون من ويلاتها طوال خمس عشرة سنة حرباً كادت تودي بالكيان إلى تجزئته «كانتونات» مذهبية تُناحر بعضها بعضاً لولا أن العناية الإلهية يسَّرت للبنان فرصة وفاق أمكن بموجبها وضْع نهاية للاحتراب الأهلي مع الأمل ببداية ترميم للمفاهيم القائمة على قواعد طوائفية، ونعني بذلك نجاح السعي السعودي المعزز عربياً ودولياً الذي أثمر اتفاق الطائف.
كان يمكن لـ«بيت بيروت» الذي تم بناؤه عام 1924 أن يلقى ما أصاب مئات الأبنية التراثية التي حلت محلها بنايات سكنية معلولة كهربائياً ومائياً، فضلاً عن المشكلة الأعظم المتصلة بالنفايات، لولا حالة اهتمام بإبقاء هذا البيت على حاله مع ترميمه ومن دون إزالة آثار ألوف الرصاصات التي أصابت جدرانه في زمن الحرب الأهلية. وانتهى الأخذ والرد في شأن هذا البيت الذي كان مكتب أحد رموز الحرب الأهلية بشير الجميل قريباً منه، إلى استملاكه من جانب بلدية بيروت وتحويله بالتعاون مع بلدية باريس إلى مركز ثقافي يتطور سنة بعد سنة. وقد يقال إن هذا المبنى هو أحد شواهد الحرب، فلماذا هذا التكريم له؟... لكن الفكرة هي في تذكير الناس بالذي جرى لعلها تنفع الذكرى. لكن مع شديد الأسف، ما زالت هنالك نفوس أمَّارة بالسوء وهي تمارس العمل السياسي ومن شأن أفعالها، لا قدَّر الله، أن يعود «بيت بيروت» وعشرات البيوت والأسطح والعمارات الشاهقة إلى منصات إطلاق القذائف طمعاً بزعامة مطلقة.
وحيث إن المعرض الذي نحن على موعد معه هو «شواهد نابضة» حول الدبلوماسية السعودية - اللبنانية على مدى يوبيل ماسي من سنوات العلاقة الكثيرة التميز بين دولتيْن تتبادلان الود واللهفة وتتجاوزان المنغصات بين حين وآخر من جانب مَن تعتمد التحرش والتدخل وتفعيل التمذهب سياسة تعامُل بدل الود واحترام الخصوصية وقدسية الوطن كياناً للجميع، فإنني أستحضر هنا تجربة ظافر الحسن، أحد سفراء لبنان لدى السعودية الذي كان في عمر السفير بخاري عندما عُيِّن سفيراً لدى المملكة. وكان صاحب مبادرات بنوعية مبادرات وليد بخاري، ومن أجل ذلك كان السفير الذي أمضى مدة زمنية قياسية في المنصب لدى المملكة. وهو خيراً فعل عندما روى وبكل أمانة وتجرُّد في مذكراته التي أصدرها بعدما بات في التقاعد من العمل الدبلوماسي في ظل خمسة رؤساء جمهورية (إلياس سركيس. أمين الجميّل. رينيه معوض. إلياس الهراوي. إميل لحود) المتيسر من الوقائع التي تعكس مدى الحرص من جانب المملكة على لبنان، ومدى اطمئنان لبنان؛ لأن علاقته بالمملكة تشكِّل ما يشبه بوليصة التأمين عند أيام الشدة يكابدها بنوعيْها السياسي والكارثي نتيجة حرب بين القوم مع بعضهم بعضاً أو نتيجة عدوان إسرائيلي دمر بنياته التحتية.
وتستوقف المتابع مثل حالي لمحطات قطار العلاقة السعودية - اللبنانية واحدة لم يتسنَ للبنانيين ولغيرهم الاطلاع عليها والإحاطة بما جرى فيها، ونعني بذلك لقاءً تم في الطائف يومي 1 و2 يوليو (تموز) 1982 بين وزير الخارجية السعودي الأمير (الراحل) سعود الفيصل والشيخ بشير الجميل بحضور عبد العزيز حسين وزير الدولة الكويتي والأمين العام للجامعة العربية زمنذاك الشاذلي القليبي. ويعكس مضمون أحاديث ذلك اللقاء الذي دام عشر ساعات متواصلة (وثّق ظافر الحسن محضرها بالنص الكامل) كم أن مشقة تذليل العقبات من أجْل مصلحة لبنان الوطن والشعب والدولة كانت دائماً تهون لدى أهل القرار السعودي كي لا يعصف الطامعون بهذا الكيان وبخصوصية الصيغة، وتلك حالات عصْف تتم مباشرة أو بالوكالة مع تنوع الوكلاء وهم كثرة... لا حقق الله لهم مبتغى.