توقيت القاهرة المحلي 14:21:48 آخر تحديث
  مصر اليوم -

ظاهرة قيس سعيد.. محاولة للفهم

  مصر اليوم -

ظاهرة قيس سعيد محاولة للفهم

بقلم: عبد الله السناوي

مضت سيرته الأكاديمية أستاذا للقانون الدستورى فيما هو معتاد من رجل يحترم نفسه وقريب من طلابه، ميله للتقشف فى تفاصيل حياته صاغ صورته فى محيط معارفه، لا انضم إلى حزب موال أو معارض، ولا انتسب إلى تيار سياسى وفكرى بعينه، ونأى بنفسه عن أى منصب تنفيذى ولا ترشح على قوائم أحزاب فى أى انتخابات عامة.
عندما خرج إلى التقاعد عام (2018) لم يخطر بباله ولا بال أحد أن مؤهلاته السياسية والشخصية ترشحه لاكتساح الانتخابات الرئاسية كما حدث بعد شهور قليلة.
لم يلفت اسمه نظر المتابعين عندما تقدم بأوراق ترشحه، كأنه اسم للنسيان وسط أقطاب الحياة السياسية التونسية وما يتوافر لهم من نفوذ ومال وأنصار.
كانت نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية صدمة حقيقية لكل التوقعات التى سبقتها، كأنها زلزال قوض الحياة السياسية بكل مكوناتها وتياراتها إلى ركام وطرح سؤال المستقبل مجددا، كما لم يحدث منذ ثورة (2011)، التى أطاحت الرئيس الأسبق «زين العابدين بن على».
بفضل ثورتها حازت تونس قدرا كبيرا من الحريات العامة سمح للرأى العام فيها أن يعبر عن ضيقه البالغ فى صناديق الاقتراع من النخب السياسية المتصارعة على غير قضية تعنيه وتدخل فى صميم شواغله وتعطيه أملا فى تحسين أحواله المعيشية، التى تدهورت على نحو فادح.
انخفض معدل الإقبال على التصويت بـ(20%) عن أول انتخابات رئاسية بعد الثورة عام (2014)، الرقم بدلالته يعبر عن حجم الإحباط الذى ساد قطاعات واسعة بأثر تجربة السنوات الخمس الماضية.
كان عزوف النسبة الأكبر من الشباب عن المشاركة تعبيرا آخر عن حجم ذلك الإحباط.
بدا التصويت عقابيا للأحزاب والقوى السياسية التى منحها التونسيون ثقتهم فى الانتخابات الرئاسية والتشريعية السابقة.
تبعثر حزب «نداء تونس»، الذى أسسه الرئيس الراحل «الباجى قائد السبسى» فى منازعاته وانشقاقاته، وأخفق مرشحه المفترض وزير الدفاع «عبدالكريم الزبيدى» حيث حل رابعا فيما كانت ترشحه التوقعات المسبقة للصدارة، كما أخفق حزب «تحيا تونس» الذى أسسه رئيس الوزراء «يوسف الشاهد» حيث حل خامسا، وضرب الزلزال الانتخابى حركة «النهضة» فى عمق ثقتها بشعبيتها وخرج من الجولة الأولى مرشحها «عبدالفتاح مورو» الذى حل ثالثا، ونالت أحزاب اليسار ضربات أفدح.
لم يستثن الزلزال تيارا دون آخر، ولا وجها معروفا دون آخر، كان العقاب جماعيا.
كان ذلك أقرب إلى ثورة اجتماعية صامتة بقدر ما عبرت عما هو مكتوم من غضب عام.
كان ذلك النصف الأول من الزلزال التونسى.
ولم يكن النصف الثانى أقل دويا حيث صعد إلى الجولة الثانية الحاسمة رجلان متناقضان.
أولهما ــ «قيس سعيد» وهو أكاديمى شبه مجهول، تصعب ملامحه السياسية الحقيقية على النظر بالعين المجردة.. وثانيهما ــ «نبيل القروى» وهو قطب إعلامى موقوف بتهم الفساد وغسيل الأموال أدار حملته من خلف جدران السجن.
حتى هذه اللحظة اتسقت التفسيرات الشائعة مع الجو العام من احباط واسع ونظر سلبى للمستقبل.
الصورة اختلفت تماما فى جولة الحسم، ارتفعت نسبة الإقبال على صناديق الاقتراع بأكثر من الجولة الأولى والانتخابات التشريعية التى سبقتها، شارك الشباب بمعدلات أكبر، كأن تونس استشعرت خطرا داهما من أن تقع تحت وطأة فساد فى الحكم والارتهان بالكامل للمنظومة السياسية المستهلكة، مالت فى لحظات الحسم إلى «الرجل النظيف».
كان ذلك داعيا رئيسيا لظاهرة «قيس سعيد»، الذى جاء من خارج السياق، وصفاته الشخصية وافقت احتياجات اللحظة، لحظة الضجر من كل ما هو متكلس وفاسد.
فى جولة الحسم تحول «الرجل النظيف» إلى أمل فى المستقبل، ارتفعت معدلات الثقة فى النفس وفى التجربة الديمقراطية إلى حدود غير مسبوقة منذ اندلاع ثورة (2011).
رغم أن الصلاحيات الدستورية للرئيس محدودة بالقياس على ما يتمتع به رئيس الحكومة، إلا أن الانتخابات الرئاسية برسائلها تعطى فكرة عن مدى الانقلاب الذى يمكن أن يطرأ على اللعبة السياسية التونسية وتوازنات القوى مستقبلا.
بتعبير «قيس سعيد»، فإن ما حدث «ثورة جديدة فى نطاق الشرعية الدستورية القائمة».
التعبير منضبط وصياغته على شىء من الدقة، فهو أستاذ قانون دستورى اكتسب شعبيته بإطلالاته بعد ثورة (2011) على الجمهور العام فى مداخلات تلفزيونية امتازت بالرصانة وحسن الإلقاء بلغة عربية فصحى متمكنة، لا يتحدث بغيرها، وهو هنا يحتذى المفكر الراحل الدكتور «أحمد صدقى الدجانى» عضو اللجنة التنفيذية العليا السابق لمنظمة التحرير الفلسطينية، الذى اشتهر بتصويته ضد اتفاقية «أوسلو»، ربما يكون قد تعرف عليه وتأثر به، وهذا مجرد افتراض.
فى حدود ما هو معروف عن «سعيد» فإنه يجرم التطبيع مع إسرائيل ويعده خيانة وطنية.
كانت دعوته لأنصاره الذين خرجوا يحتفلون فى الميادين الرئيسية بإعلان فوزه رئيسا أن يرفعوا العلم الفلسطينى بجوار العلم التونسى داعيا إضافيا للقبول العام امتد إلى جميع أرجاء العالم العربى.
وهذا دليل جديد على أن القضية الفلسطينية، أيا كانت درجة تراجعها، مقياس لا يخطئ لشعبية النظم والرئاسات.
نحن أمام رجل يصعب توصيفه الفكرى والسياسى خارج الكلام العام، فهو مستقل كما يقول ويؤكد، وقد تكون الشعبية الكبيرة التى حازها مؤقتة، فكل شىء سوف يتوقف على الطريقة التى سوف يدير بها مهامه الدستورية، ومدى قدرته دون ظهير حزبى على إدارة مكونات برلمان مشتت لا توجد أغلبية ظاهرة فيه.
يلفت الانتباه أن حملته الانتخابية ضمت مجموعة متناقضات، سلفيون لم يعهد عنهم عناية بقضية الديمقراطية والتغيير عبر صناديق الاقتراع وشبان أقرب إلى اليسار الاجتماعى يبحثون عن نوع من القطيعة مع الديمقراطية الليبرالية دون أن يكون واضحا نوع الديمقراطية الاجتماعية التى يطلبونها، حسب ما هو منشور من تقارير صحفية تبحث وتستقصى خلفيات رجل قرطاج الجديد.
بتلخيص ما فهو محافظ دينيا فى مسألة المساواة فى الميراث وراديكالى قوميا فى القضية الفلسطينية وأميل إلى اليسار فى العدل الاجتماعى.
هذا الزواج الفكرى بين المحافظة والثورية وضعته فى دائرة الشخصيات السجالية.
كما أن تصوره للنظام الحزبى أقرب إلى المثاليات الرومانسية عن الديمقراطيات المباشرة، وهو ما يصطدم بالالتزام الدستورى الذى أعلن مسبقا أنه يحترمه ولن يخرج عنه بأى ذريعة.
هو رجل قانون ومن رأيه إن قضاء مستقلا أهم مائة مرة من الدستور وأن تطبيق القانون على الجميع ينبغى أن يتم بلا تمييز.
وجد فيه الشباب ما يحمسهم للانخراط فى حملته باعتقاد أنه أقرب إلى الثورة، يدرك ذلك ويؤكد عليه بشعار «أوفياء لدم الشهداء» فى إشارة للتضحيات التى بذلت فى طلب التغيير وشعار «الشعب يريد» فى إشارة أخرى إلى ما جرى التنكر له من أهداف بذلت من أجلها تلك التضحيات.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ظاهرة قيس سعيد محاولة للفهم ظاهرة قيس سعيد محاولة للفهم



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 22:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

بشرى تكشف عن أمنيتها للعام الجديد
  مصر اليوم - بشرى تكشف عن أمنيتها للعام الجديد

GMT 07:12 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

فينيسيوس الأفضل في العالم لأول مرة وهذا ترتيب ميسي وصلاح

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2019 الإثنين ,09 كانون الأول / ديسمبر

إيهاب جلال يطمئن على فريد شوقي بعد تحسن حالته

GMT 16:26 2019 الأحد ,10 آذار/ مارس

سيدة كل العصور

GMT 06:37 2018 الثلاثاء ,28 آب / أغسطس

تعرف على سعرالمانجو في سوق العبور الثلاثاء

GMT 01:04 2018 الثلاثاء ,01 أيار / مايو

وداع أندريس إنييستا يخيم على احتفالات برشلونة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon