بقلم: د. ناجح إبراهيم
لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك لبيك، وقف الحجيج يرددونها جميعاً وتهتف بها قلوبهم ومشاعرهم وضمائرهم، لا فرق بين جزائرى أو مصرى أو سودانى، ولا أسود ولا أبيض ولا أصفر، لا فرق بين مسلم عربى أو أمريكى أو أوروبى أو آسيوى أو أفريقى أو هندى أو باكستانى.
كلهم مسلمون، يعبدون إلهاً واحداً، ويتوجهون إلى بيت واحد، وقبلة واحدة، ويلبسون ملابس واحدة، ويؤدون مناسك واحدة، يرفعون راية واحدة هى راية لا إله إلا الله محمد رسول الله.
يقفون سوياً بعرفات فى وقت واحد، ويغادرونها فى وقت واحد، ويحلقون فى يوم واحد، ويرمون الجمرات بطريقة واحدة.
لا يرفعون أى راية سوى راية التوحيد والعبودية الحقّة لله الواحد القهار، لا يتعصبون لبلادهم ولا أوطانهم وأجناسهم، ولا ألوانهم أو وظائفهم، فضلاً عن أن يتعصبوا لفريق كروى لا يخدم وطناً ولا يحرر أرضاً، ولا يحقق تقدماً اقتصادياً أو سياسياً أو حضارياً، مهما كانت انتصاراته فى المستطيل الأخضر، فهو خارج هذا المستطيل لا يساوى شيئاً، بل قد يمثل عبئاً مالياً واقتصادياً على الجميع، وشغلاً لهم عن مهماتهم العظمى، وآمالهم الكبرى فى الدين والحياة ولا تعصب لجماعة أو فصيل على حساب الإسلام والأوطان، فالدين والوطن مقدّمان على الجماعات. والجماعات، وأيضاً الحكومات، تزول وتبقى الأوطان فلا دوران حول جماعة ولا تقديم لمصالحها على مصالح الأوطان العليا.
وقف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى مثل هذا اليوم منذ أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان على ناقته القصواء، وقال: «استنصت الناس يا جرير» فأنصت له كل شىء، أنصتت له الدنيا كلها، الرجال والنساء والحجر والمدر والأرض والسماء، أنصتوا جميعاً لكلمات رسول الله «صلى الله عليه وسلم» المودعة للدنيا كلها، والتى سيلخص فيها رسالته ويودع فيها أصحابه، ويستودع الرسالة والأمانة للأجيال القادمة.
إنه اليوم يلمّح بقوة بالرحيل عن الدنيا بعد أن ملأها خيراً وبراً، إنه يقول لهم: «أيها الناس اسمعوا قولى فإنى لا أدرى، لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا بهذا الموقف أبداً» إنه موقف مهيب، لقد أقبلت إليه يومها كل قبائل العرب، واجتمع له كل أصحابه تقريباً السابقين واللاحقين، جاء إليه العرب جميعاً منقادين طائعين بعد أن عصوه طويلاً، جاءوا إليه بعد أن نزعوا عن أنفسهم عصبية الجاهلية، ووجهوا ولاءهم لله ولرسوله وللمؤمنين، وقدموا الإسلام على كل ما سواه، قدموه على القبيلة والعشيرة وكل العصبيات الممقوتة، بل قدموه على الأهل والولد.
ها هو النبى العظيم «صلى الله عليه وسلم» يرى اليوم ثمرة كفاحه الطويل، ويرى اليوم حصاد بذله وعطائه الذى استمر طيلة ثلاثة وعشرين عاماً، ونتيجة صبره وحلمه وجهاده ودعوته وتعليمه وتربيته، يراها فى تلك الجموع المؤمنة الغفيرة التى لم تجتمع من قبل لنبى قبله، فقد كانوا مد البصر عن يمينه وشماله وأمامه وخلفه.
رأى من خلالهم الأجيال المسلمة القادمة، كما رأى من خلالهم دولة الإسلام الوليدة والتى دانت لها العرب، وستدين لها فى الغد القريب بلاد الروم وفارس بل والدنيا كلها.
إنها لحظات مهيبة جميلة يشتاق إليها كل الدعاة إلى الله، حينما يشهدون لحظة الحصاد لثمرهم إذا أينع، وقد يشهد بعضهم هذه اللحظة، ولكن أكثرهم لا يشهدها فى الدنيا، ليشهدها فى الآخرة.
تحدث رسول الله يومها فى حجة الوداع عن كل القضايا المهمة التى ستحتاج لها أمته، تحدث عن المرأة وحقوقها وأوصى بها خيراً، وتحدث عن حرمة دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم فى نبرة حاسمة واضحة «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، فى شهركم هذا، فى بلدكم هذا»، ولكن من يتذكر هذا النداء العظيم، فمن ذا الذى يلتزم اليوم بهذا الأمر الصارم المؤكد الذى استفتح به رسول الله «صلى الله عليه وسلم» خطبته، وهل سمعه الذى يقتل أباه أو أمه أو شقيقه أو أخاه فى الإسلام أو فى الأوطان، وهل سمعه الذين يضعون المتفجرات العمياء فى الأسواق ومحطات المترو أو يفجرون المستشفيات بمن فيها فيزيدوهم رهقاً ومرضاً أو يمزقونهم تمزيقاً دون أن يتذكروا لحظة هذا التوجيه النبوى العظيم.
كل عام وأنتم بخير.. وتقبل الله منا ومنكم.. وجمعنا الله على محبة الأسرة الإبراهيمية العظيمة التى تفرعت منها شجرة النبوة والرسالات الكبرى، وعلى رأسها رسالة موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام.