بقلم: د. محمود خليل
نستطيع أن نؤرخ لبداية ظهور وجهتى النظر التى تؤيد أولاهما «التغيير الحاد السريع للأوضاع» وتجنح ثانيتهما إلى «الإصلاح التدريجى للواقع» بفشل الثورة العرابية. التنازع بين وجهتَى النظر هاتين قفز فى مشاهد متعددة من تاريخ المصريين، لعل أبرزها المشهد الذى أعقب ثورة 1919. وأتصور أن التنازع ما بين هاتين الوجهتين من النظر لا يزال يشكل ثنائية أساسية يتفاعل بها العقل المصرى مع العديد من القضايا المعاصرة. وتكاد هذه الثنائية تقسم المصريين المهمومين بالشأن العام إلى فئتين: فئة الحالمين، وفئة الواقعيين.
بعد فشل ثورة «عرابى» ظهر اتجاه ينكر على زعيم الثورة وصحبه فِعلَهم، ويتهمهم بالعدو وراء حلم زائف أفقدهم القدرة على رؤية الواقع وفهم أبعاده والعوامل التى تحكمه، وأن حركتهم أدت إلى خسران مبين للبلاد، بعد أن تمكن الإنجليز من احتلالها. ولا يخفى عليك أن هذا الرأى يقفز على الواقع ويهدر الكثير من السياقات التى أحاطت بهذا الحدث، لكننا لسنا بصدد مناقشة ذلك، ما نريد التوقف أمامه يتحدد فى ذلك التيار الذى نشأ حينذاك ويدعو إلى «الواقعية السياسية»، وينادى بالإصلاح التدريجى للواقع بعيداً عن أحلام الحالمين الذين يبيعون الوهم للمجموع، ثم يتسببون فى مشكلات جللة قد تعيده سنين إلى الوراء.
تشكل تيار الواقعية السياسية -المنادى بالإصلاح التدريجى حينذاك- من مجموعة من المثقفين المصريين الذين نأوا بأنفسهم عن المشاركة فى الثورة العرابية، مثل على مبارك الذى عاد إلى قريته بمجرد اندلاع الأحداث وتفرَّغ لإصلاح أرضه، ولما انتهى «عرابى» إلى ما انتهى إليه رجع إلى القاهرة وواصل مسيرته فى خدمة التعليم فى مصر، ونظر إليه كمقدمة كبرى للإصلاح وللتغيير الثقافى والاجتماعى الذى يمهِّد لبناء دولة حقيقية. كما ضم هذا التيار بعض من شاركوا فى الثورة العرابية لبعض الوقت ثم تابوا وأنابوا، مثل الشيخ محمد عبده، الذى تبنَّى نظرية التربية كسبيل للإصلاح، واستنكر الأصوات الداعية إلى الحكم النيابى، واستغرب دعوتها بالموازاة لذلك إلى تحرير شعب مستعمر، دون الالتفات إلى أن الجهل هو المحتل الحقيقى للمصريين.
تبلور تيار الواقعية السياسية الداعى إلى الإصلاح التدريجى إذاً فى إطار «ثنائية التربية والتعليم» وأخذ أصحابه يبذلون جل جهدهم فى هذا الاتجاه، وفى سياقه أيضاً ظهر مصطفى كامل داعياً إلى الدفاع القانونى عن استقلال مصر، متذرعاً بتبعيتها إلى الدولة العثمانية، وبدأ يبذل جهوده فى حل المشكلة تحت مظلة القصر الذى كان يجلس على عرشه حينذاك الخديو عباس حلمى، لكن اللافت أن واحداً ممن تبنوا مبدأ «الواقعية السياسية» -بعد الثورة العرابية- وأخذ يتعامل مع الإنجليز كأمر واقع، بل ويجذِّر صِلاته بالمندوب السامى البريطانى فى مصر، وهو سعد زغلول، وجد نفسه قائداً لثورة عارمة انداح فيها الشعب إلى الشوارع، وهى الثورة التى انضم إليها كل أطياف الشعب، بما فى ذلك أصحاب نظرية الواقعية السياسية المنكرون لفكرة التغيير الحاد السريع!.