مرت مئوية ثلاثة من الزعماء الأثيرين فى قلبى وفى تاريخ أمتنا العربية عام ٢٠١٨، وهم الزعيم جمال عبدالناصر، ولد فى يناير، والزعيم الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، ولد فى شهر مايو، والزعيم محمد أنور السادات، ولد فى شهر ديسمبر من عام ١٩١٨.
أشعر أنهم جميعا يمثلون بتجاربهم الوطنية جامعة علمية وسياسية تعلمت فيها أنا وألوف الكتّاب وملايين العرب مُثلًا سياسيةً وطنيةً وقيمًا قومية ودروسًا نضالية، كلها مهمة، وتتلمذت فى فصولها على طرائق وأساليب كل منهم الثرية والمتنوعة فى مواجهة التحديات وقهرها.
لقد احتفلت جهات عديدة بكل منهم على حدة؛ فالناصريون احتفلوا بجمال عبدالناصر. والساداتيون احتفلوا بالسادات، والعروبيون احتفلوا بزايد.
أما فيما يتعلق بى، فإننى أجمعهم فى سياق واحد من الإعزاز والتبجيل والاحترام العميق، فأنا أرى فى الثلاثة وجوهًا متنوعة لذات القيم الوطنية والعربية النفيسة.
إنهم ثلاثة رجال، معادنهم نادرة تجمع بين صلابة الإرادة وقوة العزيمة والعواطف الوطنية الجياشة والتطلعات القومية لاستعادة وحدة العرب وإلحاقهم بركب التقدم الحضارى المعاصر.
إنهم درر وجواهر، ونجوم ستبقى لامعة متألقة على مر الزمان تومض لنا بالمثل والقيم التى ستهدى أجيالنا إلى دروب النجاح فى مواجهة التحديات القادمة.
لقد منحتنى الظروف فرصة أن أمثل أمام كل منهم فى لحظة نجاح كبرى، وأن أحظى عن قرب بقبس من بريق الزعامة والقيادة الذى تشع به عيونهم، وأن أتشرف بمصافحة يمنى كل منهم التى تشحن بدنك وروحك بقوة عزم لا تنتهى فى مراحل مختلفة من عمرى.
كانت مصافحتى الأولى لعبدالناصر فى بورسعيد عام ١٩٥٤، وسأعود إليها فورا.
وكانت مصافحتى للشيخ زايد فى أبوظبى فى العيد الوطنى لدولة الإمارات عام ١٩٨٦، وهو عيد يسجل النجاح الضخم الجليل الذى أحرزه الشيخ، عندما تمكن بالحكمة من إنهاء الواقع المبعثر للكيانات العربية الصغيرة وتوحيدها فى دولة قومية شامخة، هى دولة الإمارات العربية المتحدة التى أصبحت اليوم نموذجًا للدولة العصرية المتقدمة الجامعة بن قيم العروبة والأصالة من ناحية والحداثة والتقدم من ناحية ثانية.
كنت مدعوا إلى أبوظبى كأكاديمى وكاتب مصرى واستقبلنا شيخ العرب فى مقر الحكم بمشاعر قومية عروبية جياشة جعلتنى أشعر أن أرض الإمارات هى أرض لكل العرب، وأنها ركيزة صلبة للوحدة العربية الكبرى بنجاح تجربتها الوحدوية واحتضانها لقيم مساندة الأشقاء العرب فى كل ربوع أمتنا.
أما مصافحتى للسادات، فكانت فى قصر عابدين بالقاهرة، عندما حقق نجاحًا وطنيًا كبيرًا فى مرحلة العمل السياسى لتحرير سيناء، وأعادها كاملة إلى مصر بعد أن خلصها من مخالب الإستعمار الاستيطانى الإسرائيلى بمزيج نضالى جمع بين مرحلة الكفاح المسلح بحرب أكتوبر الظافرة وتوقيع معاهدة السلام، وكنت مدعوًا مع كوكبة من الأكاديميين بمناسبة دعوة الرئيس السادات للرئيس الإسرائيلى، إسحق نافون، أحد أقطاب معسكر السلام الإسرائيلى عام ١٩٨١.
عودة إلى عبد الناصر، جاءت مصافحتى لجمال عبدالناصر مرتين، أولاهما فى ساحة مبنى قناة السويس ذى القبة الشهيرة المطلة على قناة السويس التى تظهر فى الأفلام السينمائية كعلامة على مسقط رأسى مدينة بورسعيد، وكان بمناسبة إنجاز تاريخى كبير، أعاد لمصر رايتها واستقلالها الوطنى وكرامة مواطنيها وحريتهم فى شوارعهم ومدنهم وقراهم التى فقدوها منذ عام ١٨٨٢، عندما غزت القوات البريطانية مصر.
فى عام ١٩٥٤ جاء عبدالناصر ورفاقه من ضباط ثورة يوليو إلى بورسعيد، ليرفعوا العلم المصرى على صارى القاعدة البريطانية داخل مبنى رئاسة قناة السويس بعد توقيع إتفاقية الجلاء التى تنهى سيطرة قوات الاحتلال البريطانى التى استمرت عقودًا طويلة شهدت ثورة ١٩١٩ وموجات متلاحقة من الكفاح السياسى والمسلح ضد هذا الاحتلال.
تجمعنا نحن- أطفال بورسعيد- حول الأسوار من الخارج؛ نهتف بحياة مصر ونرفع صور شهداء قرية دنشواى عاليا، وفجأة فتحوا لنا الأبواب، فاندفعنا داخل مبنى رئاسة قناة السويس ومع التزاحم وجدت نفسىى وأنا طفل فى العاشرة أقف أمام جمال عبدالناصر، بعد أن شاهدته، وهو يرفع العلم المصرى، وسمعته وهو يلقى كلمته. مددت له يدى اليمنى، بينما حملت يدى اليسرى العلم المصرى، فنظر إلىّ بعاطفة أبوية غامرة، وصافحنى بيده اليمنى، ثم ربت بها على رأسى، فسرت فى نفسى شحنة عاطفية تجمع بين الفخر الوطنى والمحبة الشخصية لرمز هذا الفخر، وهى شحنة ما زالت تسرى داخلى قوية لا تضعفها الأيام، مهما مر الزمن، ولا تنال منها عوامل الشيخوخة والضعف التى تنال من قوة الأجسام مع مرور السنوات.
هذه كلمات لا تفى بحق العظماء الثلاثة.. ولا بد من العودة لكل منهم فى مقالات لاحقة.
نقلا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع