عجيب أمر عصرنا الراهن؛ فالوسطية التى تُعبّر عن الوضعية المثلى فى أغلب الأحوال، ليست كذلك فى حالة الطبقات الاجتماعية. فها هى الطبقة الوسطى Middle Class فى مجتمعات معاصرة عديدة، تُعانى من صنوف شتى من المشكلات، وتتزايد عليها الأعباء الاقتصادية والاجتماعية، وتقف حائرة أمام مواجهتها، وتسقط، على إثر ذلك، فى بحر واسع من الهموم. وبدلا من أن تُصبح هذه الطبقة «القاعدة الاجتماعية» التى تُبنى عليها خطط التنمية الاقتصادية المستدامة، إذ بها تمسى أول من يدفع فاتورة ما يسمى ببرامج «الإصلاح الاقتصادى»!
****
فى بقاع عديدة من العالم، هناك الآن هجمة «نيوليبرالية» شرسة على كل مكتسبات الطبقة الوسطى. فبعدما امتدت مظلة «دولة الرفاه» لتغطى شطرا مهما من احتياجات أبناء هذه الطبقة من خدمات الإسكان والتعليم والصحة، يؤمن أنصار النيوليبرالية ــ بتحيز طبقى فج ــ بأن هذه المظلة الاجتماعية هى المتهم الأول فى تفاقم الأزمات الاقتصادية، وأنها وحدها تتحمل عبء الخروج من تلك الأزمات. وفى ضوء هذا «الإيمان النيوليبرالى» الراسخ، لا تتعجب كثيرا عندما ترى هؤلاء الأنصار ــ أينما حلوا ــ لا يملّون من مطالبة راسمى السياسات الاقتصادية بالكف عن دعم أنشطة التعليم والصحة والإسكان، وأن يتركوا العنان لأليات السوق الحرة، لكى تعيد للاقتصاد «الكفاءة» المفقودة!
ولئن كان تفنيد المنطق الواهى لهذا الإيمان النيوليبرالى ليس هو الهدف الأساسى لهذا المقال، إلا أنه من المنطقى عند الحديث عن هموم الطبقة الوسطى أن نذكر المتسبب الرئيسى فيها. وبمعنى آخر، لا يجوز ذكر آلام الضحية، دون تحديد هوية الجانى. ولكن، أليس من المنطقى كذلك التعرف على الضحية وتحديد ملامحها قبل سرد بعض من همومها؟!
اقتصاديا، ليس هناك تعريف موحد للطبقة الوسطى. فهى تمثل طيفا واسعا من سكان أى دولة، وتنتشر فى أقاليمه المختلفة، وتتباين فيما بينها فى مستوى الدخل والتعليم. ومع ذلك، وبالاعتماد على منهجية الاستبعاد، يمكن القول بأن هذه الطبقة، لا هى من الثراء لدرجة أنها تمتلك أصولا إنتاجية تولد أرباحا ومكاسب رأسمالية منتظمة، ولا هى من الفقر لدرجة أنها تعانى من العوز للدخل الدائم والمستقر. فالتجانس القائم بين أبناء هذه الطبقة ناشئ من اعتمادهم على قوة عملهم فى توليد ما يحصلون عليه من دخل. ولذلك، فهذه الطبقة يتكون أغلب أعضائها من المشتغلين فى الجهاز الحكومى والقطاع العام، ومن العاملين فى القطاع الخاص المنظم، ومن أصحاب المهن الحرة عالية المهارة (الأطباء، المهندسون، المحامون.. إلخ)، أو ما يطلق عليهم أصحاب «الياقات البيضاء».
وبالرغم من التنوع والتمايز الواضحين فى مكونات هذه الطبقة، فإن ما يجمعها على ما بينها من تنوع وتمايز، هو أن أعضاءها يشتركون، هذه الأيام، فى عدد متزايد من الهموم الاقتصادية. والنقاط التالية تصنف جزءا مهما من هذه الهموم.
ــ قلنا حالا إن المصدر الأول لدخل أبناء الطبقة الوسطى يأتى من دخل العمل. وبناء على ذلك، يصبح التحدى الأصعب، والهم الأكبر، أمام أبناء هذه الطبقة، هو الحصول على فرصة عمل تولد دخلا كافيا للتشبث بعضوية هذه الطبقة. ومن الطبيعى، أنه فى ظل تراجع قدرة الأسواق المختلفة على خلق فرص عمل منتجة، إما بسبب ضغط الانفاق الحكومى وتراجع ربحية القطاع الخاص المنظم، أو بسبب مزاحمة التكنولوجيا الحديثة للعامل البشرى، أن تتفاقم البطالة فى صفوف أبناء الطبقة الوسطى، وأن تستعر المنافسة فيما بينهم لاقتناص ما تخلقه السوق من فرص عمل محدودة؛ أفلا يترتب على ذلك همًّا أصيلا لأبناء هذه الطبقة؟!
ــ ولما كانت الحاجة لتكوين أسرة مستقرة هى من الحاجات الفسيولوجية لدى الإنسان، فإن أعضاء الطبقة الوسطى ــ شأنهم شأن باقى أفراد المجتمع ــ يبذلون كل ما فى وسعهم لإشباع تلك الحاجة. بيد أنهم، وهم فى سعيهم لهذا الاشباع، تصطدم آمالهم بعدد معتبر من العقبات.
إذا افترضنا جدلا أن هَم الحصول على وظيفة ملائمة قد انقضى، فماذا عساهم يفعلون أمام جبال شاهقة من تكاليف الزواج؟! قل لى مثلا كيف يمكن لعضو جديد من أعضاء الطبقة الوسطى أن يتحمل وحده (أو حتى بالاشتراك مع أسرته) تكلفة شراء سكن متوسط، تعلو قيمته على جملة ما سيحصل عليه من دخل طوال عمره الوظيفي؟! أو قل لى كيف يمكنه، فى نفس الوقت، أن يتحمل تكاليف زواج باهظة خلقتها عادات اجتماعية ذميمة؟! وإذا لم يكن لديك جواب، فاعلم أن عقبات بناء الأسرة هى ثانى الهموم الرئيسية لأبناء الطبقة الوسطى.
ــ إن الوقت الذى سيتمكن فيه عضو الطبقة الوسطى من تدبير نفقات السكن والزواج، هو نفسه الوقت الذى ستقفز أمامه تكاليف جديدة، لتخلق هموما إضافية. ما بالنا إذا علمنا أن بندى التعليم والصحة وحدهما، أصبحا يلتهمان نصيب الأسد من الدخل الأسرى للطبقة الوسطى.
إذا أضفنا لذلك، أن النمو الحاصل فى باقى تكاليف المعيشة الأساسية (نفقات المأكل والملبس والانتقال.. إلخ) تحتاج لنصيب متزايد من الدخل المحدود لأبناء هذه الطبقة، حينها سيبدو جليا أن متوسط الدخل الأسرى لم يعد كافيا لإشباع حاجاتهم الأساسية، ناهيك عن حاجاتهم للترفيه؛ وهذا هو ثالث هموم هذه الطبقة.
ــ فى النقاط الثلاث السابقة، اقتصر تصنيفنا لهموم الطبقة الوسطى على ما يعترض حاضرهم منها؛ لكنّ الاحتياط أمام المستقبل يخلق لهم همًّا جديدا. فلأن أبناء هذه الطبقة لديهم قدر معقول من الرشادة الاقتصادية، فإن تطلعهم لبناء مستقبل أفضل يدفعهم دائما للتفكير فى الادخار لهذا المستقبل. غير أن موجات التضخم، والتى تضرب بشدة شاطئ الاستقرار الاقتصادى، تزيد من أعباء وتكاليف الادخار النقدى. هب مثلا أن أحد أبناء هذه الطبقة قد نجح فى تغطية تكاليف معيشته الأسرية، وقرر ادخار ما تبقى لديه من دخل نقدى لمواجهة أعباء المستقبل. فى هذه الحالة، سيجد أن التراجع فى القوة الشرائية لنقوده بفعل التضخم، يقل كثيرا عن العائد الذى سيحصل عليه من قيامه بالادخار النقدى. حينها ستضاف لهمومه هما جديدا!
كما نرى، فإن رحلة حياة أبناء الطبقة الوسطى امتلأت هذه الأيام بالعديد من الهموم، يعزو أغلبها للتراجع فى دور الحكومة. كما أن أبناء هذه الطبقة، وهم فى سعيهم الحثيث للتغلب على هذه الهموم، مثلهم كمثل السائر وراء هدف متحرك يبعد عنه باستمرار!
****
يحق للقارئ الآن أن يسأل عن مدى مسئولية الدولة ــ أى دولة ــ عن تفاقم هموم طبقتها الوسطى. وللإجابة على هذا السؤال المنطقى، دعنا نقرر أن الدعوات النيوليبرالية لتقليص دور الدولة قد أتت أُكلها فى بلدان عديدة من العالم؛ يشهد على ذلك التراجع الحاصل فى نفقات الحكومة على الدعم الموجه لقطاعات التعليم والصحة والإسكان، فى مقابل الزيادة الملحوظة فى الأعباء الضريبية على الدخول والإنفاق. وبتراجع الإنفاق الحكومى، وبنمو الأعباء الضريبية، اشتدت موجات التضخم، وانخفض متوسط الدخل الاسرى لأعضاء الطبقة الوسطى، وتفاقمت همومها بطريقة آنية.
وفى ضوء هذه المسئولية الحكومية، نتساءل: كيف يمكن للحكومة مساندة الطبقة الوسطى؟
أرى أربعة مجالات يمكن التركيز عليها، إذا رغبت الحكومة فى محاصرة هموم طبقتها الوسطى. المجال الأول يتمثل فى تطوير سياسات «النمو مع التشغيل»، وفى تهيئة سوق العمل بما يجعله يتمتع بدرجه عالية من العدالة والموضوعية. فعندما تتحسن قدرة النمو الاقتصادى على خلق فرص عمل، وعندما يرى المتنافسون المعايير الموضوعية فى الحصول على فرص العمل، سيتحمل الباحثون عن عمل من أبناء هذه الطبقة ــ وغيرها من الطبقات ــ وِزر بطالتهم، حال حدوثها.
والمجال الثانى الذى يمكن التركيز عليه، هو الإصلاح الشامل لقطاع الإسكان. إذ لا يجوز فى هذا الصدد أن تترك مشكلة تخصيص الأراضى السكنية دون علاج جذرى، وتظل تدفع هذه المشكلة بأسعار المساكن لمستويات غير مبررة اقتصاديا. كذلك، يتعين تحقيق «العدالة الإقليمية» فى توزيع الإنفاق الحكومى على البنية الأساسية اللازمة للتوسع العمرانى.
وبينما ركز المجال الثانى على إصلاح مشكلات قطاع الإسكان، فإن خلق حلول تمويلية ميسرة لتكاليف الزواج، وتطوير نظام تمويلى جيد الاستهداف، وقادر على إتاحة هذا التمويل لمستحقيه، واستحداث نظام تأمين صحى كفء، يمثل المجال الثالث من مجالات مساندة الحكومة للطبقة الوسطى. أما المجال الرابع، فهو يدور حول إعادة التوازن النقدى والمالى لجسد الاقتصاد، ومحاصرة ظاهرة التضخم. فمحاصرة هذه الظاهرة المرضية ستفيد بطريقة مباشرة فى تهدئة العجز فى ميزانية الأسر، وسترتفع بسببها حوافز الادخار والاحتياط للمستقبل.
****
حقا.. ما أكثر هموم الطبقة الوسطى، وما أشد وطأتها على استقرارها الاجتماعى، وعلى قدرتها على بناء مستقبل الأمم. فالنيوليبرالية الاقتصادية التى حاصرت هذه الطبقة من كل جانب، وسلبتها عنصرا مهما من عناصر قوتها وديمومتها، لم تلق بالا لما ترتب على ذلك من وَهن اقتصادى، ولما تمخض عنه من هموم على كاهل أبنائها. فالمهم فقط، عند هذه النيوليبرالية، هو دعم نصيب الأرباح من الدخل الوطني؛ على أمل أن يتساقط جزء من هذه الأرباح لشرائح المجتمع المختلفة، بما فيها الطبقة الوسطى. ولكن، ما أبعد هذا الأمل عن الواقع على الأرض!
ولكل ذلك، آمل حقا ألا تتخلى الدولة عن دورها المساند للطبقة الوسطى؛ لأن من لا يُضيع حرثه، لا يندم يوم حصاده، كما يقول المثل!
نقلا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع