لو هناك موسوعة حديثة بعنوان «كيف تحوِّل الأصدقاء إلى أعداء بدون معلم»، فإن العالم العربى وجهاز البيروقراطية فيه هو أفضل من يكتبه بعبقرية واقتدار!!
نحن نحصل على بطولة العالم فى كيفية اختراع منغصات وعناصر مضايقات بيروقراطية تجعل الأصدقاء قبل الأعداء يكرهون «عيشتهم» ويكفرون -والعياذ بالله- بالدولة والوطن والحياة.
كان نيكولو مكيافيلى فى كتابه «الأمير» ينصح الحاكم: «حافظ على أصدقائك، وحاول دائماً أن تكسب أعداءك».
يخطئ من يعتقد أن أقسى أنواع الضغط فى دول العالم الثالث هو الضغط الأمنى، بينما النظرة العميقة لمجريات الأحداث فى تجارب العالم الثالث هى أن أسوأ أنواع الاضطهاد والتمييز هى حالات «القهر البيروقراطى» والظلم الإدارى الذى يستنزف أى أمل أو حلم لدى الناس فى حياة أفضل وغدٍ مشرق.
تستيقظ كل صباح تجد ورقة من جهة رسمية فيها ادعاء خاطئ ضدك أو ضد أحد من عائلتك أو ضد أى مصلحة من مصالحك الخاصة.
مثلاً تأتيك فاتورة كهرباء خيالية رغم أنك خارج البلاد منذ شهور.
مثلاً يأتيك تقدير ضرائب عن أعمال لم تعملها وأرباح لم تجنها.
تجد ورقة صغيرة مكتوبة بخط غير مقروء بتاريخ اليوم تدّعى أنها تنذرك للمرة الأخيرة للمثول للتحقيق لقيام سيارتك بصدم طفل رغم أنك لا تملك سيارة ولا تعرف القيادة!
تذهب إلى البنك كى تسحب مالاً من حسابك الشخصى فتجده مجمداً ثم تكتشف أن ذلك يرجع إلى تشابه أسماء مع شخص آخر وعليك أن تثبت «أنك» لست «هو»، و«هو» ليس «أنت»، وهذا يحتاج محامياً، ومالاً، و3 شهور على الأقل!
تجد الحياة صعبة وشبه مستحيلة وتجد نفسك فى حالة صراع مع أشباح لا تعرف من هم، ولا تفهم لماذا يضايقونك وتزداد لديك كل أشكال «فوبيا» الشعور بالمؤامرة الكونية!
فجأة تشعر وكأن هناك مجموعة من البشر ليس لديهم أى هم سوى أن «يكرّهوك فى عيشتك»، ويجعلوا التنفس تحت سقف الوطن أمراً مستحيلاً ومؤلماً!
تذهب إلى مستشفى حكومى لتعالج ابنتك فلا تجد سريراً لها، وحينما تجد لا يتوافر الدواء، وإذا توافر تجده منتهى الصلاحية.
تحاول إلحاق ابنك بمدرسة حكومية فتكتشف أنه لا يوجد مقعد له فى فصل من الفصول، وحينما «تدفع» من تحت الطاولة ويجدون له ذلك المقعد تكتشف أن التعليم ليس مجانياً وأن فاتورة الدروس الخصوصية أكثر كلفة من فاتورة المدرسة الخاصة.
يتعرض ملايين الناس لمثل هذه الأفعال العدائية ضدهم بشكل يومى، وحينما يصبح ذلك «أسلوب حياة»، وحينما يصبح أمراً لا يطاق ولا يحتمل فوق طاقة أى إنسان على الاحتمال ينفجر الناس بشكل جماعى فى وجه القهر البيروقراطى الذى يمثله الجهاز الحكومى والإدارى للدولة.
بعد ذلك يصبح من السذاجة والجنون أن يطرح بعض أصحاب القرار السؤال التقليدى: لماذا يكرهنا الناس؟!
نرجوكم لا تتعجبوا أنتم تصنعون أعداءكم.
وحينما انفجر الناس فى الجزائر وتونس وليبيا والعراق ولبنان والسودان كانوا يعبّرون عن وجع عميق وتاريخى من قهر ومظالم وعدم إنصاف وكأنهم يقولون: «نرجوكم إذا كنتم لا تستطيعون أن تجعلوا حياتنا أفضل فلا تجعلوها أسوأ».
وكأنهم -أيضاً- يقولون: «اكفونا شروركم»!