بقلم: د. محمود خليل
القطاع الثالث من «الأداهم» سلك مسلكاً مخيفاً استهدف من خلاله إحداث توازن فى المعادلة المختلة بين «التطلعات/ والقدرات». إنه سبيل الفساد. أشارت العديد من التقارير الدولية والمحلية إلى استشراء الفساد فى عهد مبارك بصورة غير مسبوقة، وترددت فيها أرقام مخيفة تتعلق بالفساد داخل بعض الوزارات ومؤسسات الدولة، وبصفقات بيع شركات قطاع الأعمال العام، وتكررت أحاديث حول أسماء مسئولين تورطوا فى عمليات فساد، أدان القضاء عدداً منهم. ولا تنس أن القضاء أدان الرئيس مبارك ونجليه بعد خروجه من الحكم بالسجن لمدة 3 سنوات فى قضية فساد شهيرة.
كاد الفساد فى عصر مبارك أن يصبح كالماء والهواء حقاً لمن يريد من الأداهم، ونخطئ إذا تصورنا أن أمر الفساد اقتصر على من يعملون فوق منصة الحكم أو حولها أو بالقرب منها، فقد ضرب هذا الوباء العديد من القطاعات الأدهمية الشعبية، وأصبحت مسألة استغلال الوظائف والنفوذ والتربح منها سلوكاً أدهمياً، وأخذ كل موظف «أدهمى» يبرر لنفسه أن الدولة لا تعطيه سوى مرتب ضئيل، وأنه أقرب إلى الإعانة منه إلى الدخل الطبيعى، الذى يمكّنه من إشباع تطلعاته، وأنه لا بد أن يُكمل دخله من خلال استغلال غيره. وقد حكيت لك أن تاريخ الفساد بين موظفى الدولة يضرب بجذوره فى سنوات حكم الوالى الكبير محمد على، وأن فكرة «التهليب» من الوظيفة فكرة «أدهمية أصيلة» منذ تنظيم دواوين الحكومة، ولأن ما يأتى من الهواء يطير فى الهواء -كما تقول التجربة الأدهمية- فقد كانت أغلب الأموال التى يجمعها البعض من ممارسات الفساد تذهب فى إشباع تطلعات استهلاكية لا تطور حياة ولا تحسن مستوى.
أصبح قطاع لا بأس به من «الأداهم» له دخلان: دخل حقيقى وآخر موازٍ، وكان الثانى يمثل المصدر الأهم للمال. فالمدرس له مرتب من التدريس، ودخل موازٍ من الدروس الخصوصية، وموظف الحى له مرتب ثابت من المحافظة، ودخل موازٍ يحصل عليه فى صورة رشاوى وعطايا حتى يمرر تراخيص وقرارات غير قانونية، والطبيب له دخل من المستشفى والعيادة ودخل موازٍ يتحصل عليه من شركات الأدوية نظير كتابة الأدوية باهظة الثمن فى روشتات المرضى، بدلاً من الأدوية الرخيصة المتوافرة فى الصيدليات، حتى الكنّاس فى الشارع أصبح له دخلان: مرتب يقبضه من الحى، ودخل موازٍ يحققه عبر التسول فى إشارات المرور.
فساد الرأس يؤدى إلى عطب الجسد كله، ولأن الفساد فى عصر مبارك ضرب قمة الحكم والحكومة كان من الطبيعى أن يتفرع إلى الجسد الأدهمى كله، وأن تستسلم له الخلايا القابلة له. كان هذا القطاع من الأداهم، على وجه الخصوص، غاضباً كل الغضب حين تحرك قطاع كبير من أهالى الأدهمية للثورة ضد «مبارك» فى 25 يناير 2011، لكنه لم يتحرك من أجل نصرته أو الدفاع عنه لأنه تربى على عقيدة مباركية تجعل الاستقرار -ولو كان على الفساد- أعلى قيمة فى الحياة. وارتبط جوهر غضبهم بالخوف من زوال «السبابيب» التى رتعوا فيها فى ظلال «الأدهمية المباركية».