معتز بالله عبد الفتاح
جدل مثير تعيشه مصر الآن بين من يريدون «مبادئ» ومن يريدون «أحكاما» ومن يريدون «الشريعة» بلا إضافات.. الجدل مثير بين أولئك الذين يعلنون رفضهم لمسودة الدستور لأنه علمانى والذين يعلنون رفضهم لمسودة نفس الدستور فى الوقت ذاته لأنه إسلامى. وبعض الأصدقاء يتساءلون فى جنون: «أحكام أم مبادئ أم شريعة دونهما؟».
ولو كان لقلمى المتواضع أن يسهم بفهم ما لهذه المسألة فسأبدأ بسؤال: ما تفسير الآية الكريمة «لا إكراه فى الدين»؟
دون الدخول فى تفاصيل فقهية أو عقدية موسعة هناك ثلاث مدارس كبرى، الأولى تقول إنه لا إكراه لأى إنسان غير مسلم على أن يدخل فى الإسلام، ولكن من أسلم يمكن إجباره على أن يكون مسلما أفضل؛ بأن يُجبَر على ممارسة دينه، وهناك من الدول ذات الأغلبية المسلمة من يجبرون الناس على الصلاة وغلق المحلات والمطاعم أثناء وقت الصلاة والالتزام بزى معين تحت شعار «العصا لمن عصا». والفتاوى فى هذا الأمر متعددة ومتنوعة، وعادة ما يعودون إلى أقوال صحت نسبتها للأئمة الشافعى وابن حنبل والنووى، فضلا عن عدد من المعاصرين من كبار مشايخ وعلماء دول الخليج.
هناك مدرسة أخرى تقول: إن «لا إكراه فى الدين» تعنى أن الإنسان مخير فى الدين الذى يختاره وفى مدى التزامه به، ولا يملك الآخرون إلا النصح والدعاء له بالهداية، وتستشهد هذه المدرسة بالآية الكريمة «أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين». والمعنى هنا أنك لا تستطيع إجبار أى شخص بالغ على أن يؤدى المناسك أو يلتزم العقائد، حتى إن هناك من الأئمة من يرفض توقيع أى عقوبة على الخارج من الإسلام، وإنما أن يُستتاب أبدا (أى تطلب منه التوبة دائما) مثلما ذهب الإمامان سفيان الثورى وإبراهيم النخغى، ومن المعاصرين من يركز على أمور التربية والدعوة وليس الجبر والعقاب مثل الإمام محمد عبده والشيخ محمد الغزالى والشيخ يوسف القرضاوى، على سبيل المثال.
وهناك مدرسة ثالثة ترى أن «لا إكراه فى الدين» أقرب إلى توجيه عام بأن يُترك الإنسان فى علاقته بخالقه دون تدخل بشرى فى هذا الأمر على الإطلاق إلا فى حدود ألا ينعكس ما يفعله الإنسان على الآخرين بالفاحشة (أى ألا يخرج على النظام العام والقانون) وفقا للآية الكريمة التى تشرع الحدود فى الإسلام: «إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة فى الذين آمنوا لهم عذاب أليم فى الدنيا والآخرة». ويذهب فى هذا الاتجاه الإمام المراغى (شيخ الأزهر الأسبق)، والإمام محمد أبوزهرة ويشيران فى ذلك إلى أقوال بعض المالكية والأحناف.
بعد هذا العرض يكون السؤال: لو أن الدستور مكتوب فيه «مبادئ» أو «أحكام» أو «الشريعة» دونهما، ما الدلالة التشريعية لهذا الوضع أو ذلك؟
وللتبسيط، ولله المثل الأعلى، قلت لابنى: «التزم مبادئ الأخلاق، تفاصيل الأخلاق كما اتفقنا عليها (ونحن لم نتفق على شىء محدد)، أو التزم الأخلاق». وذهب للمدرسة، ووجد من يسبه، ما الذى سيفعله ابنى؟ القضية حقيقة متروكة له؛ لأن مساحة الاجتهاد واسعة للغاية، ومظلة الإسلام اتسعت، إلا إذا كنا نريد تقييدها على مذهب واحد أو فكر واحد. وسواء التزمنا بعبارة مبادئ أو أحكام أو شريعة بغيرهما، من معه الأغلبية فى السلطة التشريعية سيكون مطالَبا بأن يفسر معنى كلمة مبادئ أو يختار حكما من الأحكام المتعددة تحت بند «أحكام الشريعة» أو أن يتخير مذهبا من المذاهب الفقهية المتنوعة التى خرجت كلها من تحت عباءة الشريعة. اللفظة بذاتها لن تغير الكثير؛ لأن المخاطب بكل هذا الأمر هو المشرع (البرلمان).
وسيكون على البرلمان أن يقرر: هل قرض صندوق النقد وفقا للمبادئ وهى عامة، أو للأحكام، وهى متعددة، حلال أم حرام، مفيد أم مضر، مقبول أم مرفوض؟
وعندى سؤال: هل ينوى من يطالبون بـ«أحكام الشريعة» أن يلزموا مصر بفهمهم وحدهم للإسلام؟ هذا أصلا ليس من الإسلام. ولو استخدموا مثل هذه الحجج فى خطابهم السياسى لرفض الدستور فهُم ببساطة يخدمون الإسلاميين وينالون من الإسلام لأنهم يجعلون الإسلام مساويا لفهمهم، وكم من علماء كبار تغير فهمهم واجتهادهم الفقهى عبر الزمن. ولا شك أن الشيخ محمد الغزالى الذى كان يكتب ضد الديمقراطية وحقوق المرأة فى المجال العام بالكلية فى الخمسينات ليس هو الشيخ محمد الغزالى الذى توفاه الله مدافعا عن الديمقراطية وعن حق المرأة فى العمل فى المجال العام بضوابط معينة فى مطلع التسعينات.
والأمر ليس بعيدا عن المادة التى تنص على التزام الدولة بالعمل على المساواة بين الرجل والمرأة دون إخلال بأحكام الشريعة الإسلامية؛ فهناك العديد من الاجتهادات بشأن «أحكام الشريعة» الخاصة بالمرأة. ولا أنسى كيف أن أحد العلماء الخليجيين كان يقنعنى، فى مرحلة سابقة من حياتى، بأن القرآن حسم قضية المرأة بقوله تعالى: «وليس الذكر كالأنثى» وتحريم خروج المرأة للتعليم والعمل بالآية الكريمة «وقرن فى بيوتكن...». وحين نقلت هذا الكلام لبعض الأئمة الأقل تمسكا بالتفسير الحرفى، والأكثر احتراما للمقاصد العليا للشرع الشريف فى تفسير النصوص وجدتهم يرون أن آيات القرآن الملزمة للمرأة بالجلوس فى البيت إنما كانت موجهة إلى نساء الرسول فقط وهى ليست ملزمة لباقى النساء، كما أن الاستدلال بأن «ليس الذكر كالأنثى» مردود؛ لأنه قول منسوب إلى امرأة عمران وليس لله مثلما قال فرعون: «أنا ربكم الأعلى»، ونقل القرآن الكريم قوله ليس موافقة له وإنما لبيان موقفه، كما أن آيات القوامة لم تنفِ عن المرأة دورها الاجتماعى بل والسياسى الذى تمثل فى أخذ البيعة ومشاركتهن فى المعارك. وقد ذكر ذلك البخارى فى فصل بعنوان «فصل فى قتال النساء وقتالهن».
إذن أحكام الشريعة الإسلامية ليست بالضرورة قاطعة على النحو الذى يظنه من يحرصون على النص عليها، وليست بالضرورة قاطعة على النحو الذى يظنه من يحرصون على إلغائها. ومع ذلك هى باب للنزاع فقط إن سيطر على مجلسى النواب والشيوخ من أراد استغلالها (أو استغلال غيابها) لخلق استبداد يفرض فيه على المجتمع رؤية واحدة وما عداها تكون ضد الشريعة أو ضد الدين. وهؤلاء سيُحدثون فتنة ضخمة قد تنتهى بحرب أهلية حقيقية، وأنا لا أبالغ فى ذلك.
ومرة أخرى نجد نفس القضية بشأن حدود الديمقراطية التى رأى بعض السلفيين فى مرحلة سابقة أنها خروج على صحيح الدين وعلى الممارسات الشرعية التى فعلها الرسول، صلى الله عليه وسلم، وصحابته؛ فعند بعض هؤلاء الديمقراطية استبدال بإرادة الله لإرادة البشر المناقضة لمبدأ الحاكمية لله، وهى تقوم على مبدأ الأغلبية، وهو ما يتناقض مع نصوص القرآن من وجهة نظر بعض السلفيين الذين استشهدوا بقول الحق سبحانه: «وإن تطع أكثر من فى الأرض يضلوك عن سبيل الله». ولا ننسى أن واحدة من أهم حجج أيمن الظواهرى ضد الإخوان المسلمين أنهم قبلوا دخول الانتخابات وعضوية البرلمانات التى لا تحكم بشرع الله. ولا شك أن تطورا حدث فى فكر بعض السلفيين وصاروا الآن يفرقون بين الديمقراطية العلمانية والديمقراطية الملتزمة بشرع الله وفقا لتفسيرهم له.
كلما دخلت فى نقاشات مع الأصدقاء الليبراليين والأصدقاء السلفيين بشأن هذه القضية أزداد يقينا أننا مجتمع يهوى محاربة طواحين الهواء ويعشق الجدل فى ما لا يفيد. لا «مبادئ الشريعة» ولا «أحكام الشريعة» ولا «الشريعة» مسألة واضحة بذاتها، وإنما هى متروكة لتفسير المجتهدين، وفى الشأنين السياسى والتشريعى ستكون المسألة جزءا من التدافع بين الأغلبية والأقلية البرلمانية فى ضوء ثوابت الدستور الأكثر تفصيلا من حقوق وحريات وإجراءات. وكما قال الشيخ المراغى: «قل لى ما الذى ينفع الناس، وأنا آتى لك بما يدعمه من القرآن والسنة». وهذه من نقاط قوة الشرع الشريف ومن نقاط ضعف من يتحدثون باسمه لأنهم اختزلوا مراد الله من التشريع فى أمور هى بطبيعتها خلافية وستظل خلافية حتى بين أنصار وأتباع المذهب الفقهى الواحد، وسيضيعون استقرار البلاد ومصالح العباد من أجل نقاشات غير مفيدة فى تقديرى المتواضع.
أعلن دعمى للمادة الثانية كما هى ودون تغيير. وأرفض تماما أن تكون هناك مؤسسة (سواء الأزهر أو غيره) تقوم على تفسير كلمة «مبادئ» حتى لا يتحول الأزهر إلى ساحة للصراع الدينى والسياسى وننتج ما نفخر بأنه ليس جزءا من ديننا وهو «الكهنوت السياسى» باسم الدين. ومهما كانت الأغلبية فى البرلمان، فإن الحقوق والحريات الأساسية ليست خاضعة لرضا أو رفض الأغلبية البرلمانية.
هذا الأمر جد خطير. ومن يرد أن يحمل الناس على رؤيته وحده لعلاقة الشرع الشريف بالدستور والتشريع، فليتحسب للعواقب، وليقرأ التاريخ: تاريخنا وتاريخ من نتباهى بأننا لسنا مثلهم.
نقلاً عن جريدة "الوطن"