معتز بالله عبد الفتاح
عظمة هذا الدين أنه ألزم أتباعه بالتطابق (مرة أخرى: التطابق) بين سلوكهم والنص الشرعى الشريف فى أمور العقيدة والعبادات والأخلاق؛ لأن الأصل فى هذه الأمور حرمة الابتداع والاختراع، وألزم عباده فى أمور المعاملات والعقوبات (الحدود) بعدم التعارض (مرة أخرى: عدم التعارض) مع النص الشريف تحقيقاً للمبادئ أو المقاصد العليا للشريعة الإسلامية وأحسب أن أولها هى قيمة العدل؛ لذا جعل ابن القيم «العدل» ركيزة الشرع بقوله: «فأينما ظهر العدل وأسفر وجهه، فثم شرع الله ودينه، وإن لم ينزل به وحى أو ينطق به رسول»، وأزعم أن العدل هو «المصلحة» الكبرى التى حرص على تأكيدها الفقهاء العظام.
وهذا الفهم العظيم للشرع، هو الذى دفع بعض الأئمة الكبار للاجتهاد فى أمور المعاملات على نحو ظن معه البعض وكأنهم يعارضون النص، وهذا قطعاً غير صحيح: فقد كان اجتهادهم فى فهم المراد من النص هو الذى أملى عليهم أن يضعوا النص فى إطار المبدأ الأسمى وهو العدل.
ولنأخذ مثلاً ما أفتى به ابن تيمية، ومن بعده ابن القيم بجواز أن يتدخل ولى الأمر بالتسعير (أو وضع سعر) للسلع رغم وجود أكثر من حديث يرفض فيه الرسول، صلى الله عليه وسلم، التسعير. مثل ما رواه الترمذى بسنده عن أنس رضى الله عنه قال: «غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الناس: يا رسول الله غلا السعر فسعّر لنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله هو المسعّر القابض الباسط الرازق، وإنى لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطلبنى فى دم ولا مال»، رواه الخمسة إلا النسائى.
إذن الحكم وفقاً للنص، ألا يجوز التسعير؛ ولكن ابن تيمية ذهب فى كتابه «الحسبة» إلى أن: «فإذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم، وارتفع السعر، إما لقلة الشىء وإما لكثرة الخلق فهذا إلى الله، فإلزام الخلق أن يبيعوا بقيمة بعينها إكراهاً بغير حق.. وإذا تضمن العدل بين الناس مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل (أى التسعير)، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ زيادة على عوض المثل: فهو جائز، بل واجب». إذن وضع ابن تيمية النص فى إطار المبدأ الأشمل وهو رفض الظلم وإقامة العدل بجواز بل ربما بوجوب التسعير إذا ترتب على عدم التسعير مظالم.
والأمر لم يكن غريباً عن موقف الفقهاء من «الصنبور» تقول بعض المراجع إن المحتل البريطانى لمصر قرر مد شبكات مياه وصرف صحى فى مصر، وفى يوم 7 مايو سنة 1884، أصدرت حكومة الاحتلال البريطانى فى مصر «القانون نمرة 68»، باستبدال الميض (أى أماكن الوضوء) فى الجوامع بالصنابير، وفى البداية عارض مشايخ المذاهب الشافعية والمالكية والحنبلية بالجامع الأزهر استبدال الميض، التى ينال المتوضئون فيها بركة الشيخ الذى يفتتح الوضوء من مائها، ولم يوافق عليها إلا فقهاء الحنفية الذين يحبذون الوضوء من ماء جارٍ، ولذلك فقد أطلق على الصنبور «الحنفية» للمساعدة على قبول الشعب لها، وقد انتشرت الصنابير واسم «حنفية» بعد ذلك فى باقى البلدان العربية والإسلامية دون اعتراض من أحد لأنه ثبت أنها تحقق «المصلحة» ولا تعارض نصاً من النصوص.
الشرع الشريف مثل الشجرة التى أصلها ثابت وفرعها (متغير ولكن منضبط بالأصل) فى السماء، ومن لا يفرق بين الأصل والفرع يحمل الناس على ما لم يلزمهم به الشرع أصلاً.
نقلاً عن جريدة "الوطن"